منى صفوان
قبل أسابيع توفيت ممثلة هندية موهوبة وشهيرة “سريدفي كابور”، فطلعت علينا مغنية عربية وخلفها ثلة من الجهلة ، يقولون بان الترحم عليها لا يجوز لانها هندوسية، وقبل ساعات توفي ستيفن هوكينج واحد من اهم العلماء بعد نيوتن واينشتاين، وصاحب النظرة والنظريات العلمية في الكون والحياة والموت وما بعد الموت، فسمعنا ذات الاسطوانة “لاتجوز الرحمة عليه لانه “ملحد” ، ماذا يعرف هؤلاء عن الإيمان والعلم والإلحاد.
لقد كانت المفارقة فاضحة، فبينما كان العالم يحتفل في يوم 14 مارس بعيد ميلاد العالم البرت اينشتاين، وباليوم العالمي المهم في علم الرياضيات “يوم العدد ط” الذي وضعه جوجل على صفحته، وايضا يودع العالم ستيفن هويكنج الذي تزامن تاريخ وفاته في نفس اليوم، كان الوطن العربي يشيع جهله على الملاء.
فقد كان كل ما يهم الراي العام العربي هو “هل يجوز الترحم عليه ام لا” في هذه اللحظة التي تسحق عقلك، تشعر انك مازلت عالقا في القرن العاشر بجانب المحرقة ، حيث احرقت كتب ابن رشد بتهمة “الالحاد”
حين بحثت عن تاريخ احراق كتب العالم العربي ” ابن رشد” كانت المصادر تشير الى انها احرقت في تاريخ 16 مارس، قبل 819عاما من الان، معلومة صاعقة، هل هي مصادفة كونية، اما مفارقة مؤلمة، ام اشارة تريد ان تقول لنا شيئا.
هل فعلا مازالنا عالقين هناك بين رماد الكتب، وما اشبه هذا الحطام والدمار الذي نعيشه اليوم بتلك اللحظة، الا تجد تشابها بين نار الحروب العبثية التي تشتعل اليوم هنا وهناك ، وتلك النار اللعينة التي ارسلت تاريخنا الى الجحيم.
انه تاريخ فارق جدا في نمو حضارتنا التي اندثرت، والتي من يومها شهدت الحضارة الاوربية تطورا مذهلا يحترم العقل ،”ابن رشد”المعروف في الغرب باسم “افيرويس” حفظت كتبه عن الفلك والطب والرياضيات في المكتبة الاوربية، بينما افنيت نسختها العربية.
فمالذي يريد ان يقوله لنا هذا التاريخ اللعين، لعبة الارقام في تطور التفكير والحضارات والامم، لها مدولودها، هل مازلنا في القرن العاشر ولم نصل بعد للقرن الواحد والعشرين.
هؤلاء العلماء الذي نسمع عنهم ، كل ما يهمنا منهم انه لايجوز الترحم عليهم، تم اختصار كل ما كتبوه في جملة واحدة هل هو “مؤمن ام ملحد”، وبالاصح ” هل هو مؤمن على طريقتنا ام ملحد وكافر بطريقتنا” هذه هي كل القصة. وهي ذاتها الجملة التي احرقت كتب ابن رشد بتهمة “الالحاد” هل وضحت المفارقة، انها اذا ليست مفارقة رقمية فقط بين تاريخ 14 و16 مارس .
هذه هي المعضلة التي افنت فرصتنا الاخيرة في التطور، انتهى ذاك الوقت حين كان الطالب الاوروبي يستقي علمه من المكتبة العربية في الاندلس، ويدخل في لغتة كلمات عربية ليقال عنه مثقف وعالم، دلالة على تفوق العقل العربي حينها.
منذ انهيار الحضارة الفكرية في الاندلس لم نشهد حضارة بعدها، حيث كان هذا اخر ظهور لابن خلدون، هل يعقل ان علم الاجتماع لم يشهد تطورا منذ ابن خلدون، حتى ان المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري ركز على هذه الاشكالية في العقل العربي. لم تتطور علومنا منذ اخر ظهور حقيقي لها في الاندلس لماذا؟
صرنا بعيدين بفارق سنين ضوئية عن عصر جاء فيه علماء غربيون ، واكتشافات جديدة، وعالم جديد، لنتحول الى مستهلكين نهمين، وايضا ناقمين، ونشعر بتلك الافضلية المريعة عن باقي الجنس البشري فقط لاننا “مسلمون” فما هو الدين، وما هو الايمان والالحاد، الذي يحق لنا به محاكمة اخرين، وافناء علمهم او طمس معالمهم، وان نعطي لانفسنا الاحقيقة في اعطائهم صك النجاة والحقيقة ،ومفتاح الجنة.
ان للدين وظيفة محددة كلاسيكية، وهي توضيح الطقوس الروحية، الاجابة على كانت اسئلة مبهمة، والتأكيد على وجود خالق، وهذه المهمة الكلاسيكية للدين انتهت، مع انقطاع ارسال الرسل، انتهت مع توقف الوحي، انتهت مع انتهاء عصر النبوة، وجاء دور العلم للاجابة على الاسئلة الاكثر عمقا عن الكون والحياة.
ولكن هذه الطريقة لاتروق لمن لايملكون العلم ويملكون الدين، او بالاصح للذين ورثوا الدين ونصبوا انفسهم “ورثة الانبياء” فلما لايكون ستيفن هويكنج هو ورثة الانبياء وليس الامام الديني في باحة مسجد الحي
رجال الدين الذين سخروا انفسهم للحكم باسم الله على الناس، ساهموا في انشاء اجيال من الجهلة، تروج لهم ولافكارهم، ضد العلم والعلماء الغربيين خاصة، بانهم ملحدين، لانهم لايؤمنون بالخالق بالطريقة التي يؤمنون بها. او بالاصح لايسلمون بسلطتهم
ان انتهاء السلطة الدينية في الغرب سمح للعقل بالتحرك والتطور، ولكن هذا انهى دور رجال الدين وسلطتهم الى الابد، وتحولوا الى رمز للقيام بالدور الكلاسيكي للدين، في اطار حدود الكنيسة، انه لم يفقد دور الدين بل دور الكنيسة
وهذا ما لايريده العلماء المسلمون، ويرون هذا اليوم كابوسا، لذلك يتم محاربة كل اشكال العلمانية، واتهمامها بالكفر، وتضليل معناها الحقيقي، ومازال يكفر الالاف من ابن رشد وليس اخرهم نصر حامد ابو زيد.
لقد صار الدين سوط ووصاية، ووسيلة للنفوذ والسلطة، ومسخر لبسط السلطات السياسية، وها انت ترى اين نحن الان، حروب مليشيات دينية ضد اخرى، وكلها باسم الدين وترفع شعار الله وجميهم حزب الله وانصاره وحماته ورافعوا رايته واهل خلافته، اي كارثة نحن فيها الان
اسم الله يرفع على راية صفراء او سوداء لتشريع القتل والحروب الطائفية، بين سنة وشيعة، داخل الاسلام نفسه، فالاسلام لم يعد يقبل نفسه، فهل سيقبل عالما بريطانيا كستيفن هوكينج يقول كلاما اخر خلاف لما يقوله علماء السنة والشيعة، او سيقبل عالما يهوديا غير متدين كاينشتاين يقول بالنظرية النسبية التي حلت لغز الكون، ولم يكلف العربي نفسه لمحاولة فهمها بعيدا عن عمامة الدين
هذا هو ذاته الدين الذي قتل معنويا اهم علماء الاسلام “كابن رشد” وغيرهم بدعوة الالحاد، تماما كما كانت الكنيسة تحرق المخالفين لها كالعالم “غاليو غاليلي ” الذي قال ان الشمس هي محور الكون، لكن هذا الكلام وقتها كان يهز عرش الكنيسة وسلطتها ، لانها لاتجعل من الارض مركزا للكون، وبالتالي يهمش دور الدين والكنسية كمركز في الارض.
هذه هي الحكاية ببساطة حكاية السلطة، لاتصدق ان الخليفة المنصور اعدم كتب ابن رشد لانه ملحد ، او لانه يفكر بطريقة مختلفة، بل لان فكره كان يهدد سلطته، انه يعمل على توعية الناس، الوعي والعلم يعني حرية، ان التفكير هو عدو السلطة السياسية- الدينية، وهذا التحالف الخانق بينهما، يعني ان هذه الامة ستبقى في الظلام طويلا، طالما بقى التحالف بين الشاويش والدرويش كما يقال في مصر.
لا السلطان العسكري- السياسي يمكنه الاستغناء على السطان الديني والعكس، وان كنت تقول في سرك الان ان المملكة السعودية كدولة دينية بدات في فسخ هذا العقد والتحالف مع المتطرفين الدينيين، فهو ايضا فسخ عقد لاغراض سياسية، لتمكين الامير من الحكم، وليس بنية الاصلاح الحقيقة الفكرية وليس ثورة ثقافية، لكن قد يكون له اثر في المستقبل القريب بان يسمح للاصوات المخالفة فكريا بالتحدث على الاقل. وهنا استطاعت السعودية فعل شيء لم تجرؤ دول دينية اخرى على فعله مثل ايران التي يقوم تحالفها مع السطات الدينية كمرجع للحكم “ولاية الفقية” .
ففي السعودية ما كان محرما قبل اشهر اصبح الان حلال، وبدا الحديث عن حكم الردة والحجاب، وسفر المرأة دون محرم وقيادة السيارة، وكلها تحلل وتحرم بفتوى او قرار سياسي، وهنا الكارثة. ان العقل مغيب تماما.
ان اصلاح اليوم هو اصلاح فوقي، بالاوامر الملكية، الرئاسية، او بفتوى دينية، ولا يقارن مع ما كنا نشهده في الاندلس حيث كان الفكر والفن والادب متاحا للعامة. بمعنى انه من السخرية اننا نحتاج الان الى فتوى لنوضج للجهلة اولا ان ترحمهم من عدمه ليس مهما الى هذا الحد، فالعامة لن يقتنعوا الا بفتوى، فحتى الاصلاحات باتجاه الاسلام المعتدل كما يطلقون عليه جاءت بفتوى، فاي خراب نحن فيه، وهل هناك اسلام معتدل واخر متطرف، ويتم تبديل الادوار بينهما بحسب رغبة الحاكم، وكم من خليفة منصور يحكم اليوم باسماء ووجوه متعدده.
والاهم الان : هل يجوز الترحم على ممثلة هندية، وعالم بريطانية لم يسلموا ، حتى وان كانوا اكثر موهبة والهاما واهمية من ملايين المسلمين، والسؤال الاهم مالذي تضيفه ترحمات المسلمين لهم، وهم الذين يقبع الملايين منهم تحت وطاة الجهل والفقر والحروب ، مالذي ستضيفه ترحمات الامة المسلمة المتخلفة ، للعلماء والفنانيين حول العالم، هذا الان هو اهم سؤال وجودي في الخارطة..