بشير عبد الفتاح
أعلن الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون خلال زيارته بكين، التي تعد الأولى له خارج بلاده منذ توليه السلطة خلفاً لأبيه في العام2011، تأييده فكرة إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، كما أبدى استعداده للقاء نظيره الأميركي دونالد ترامب في أيار (مايو) المقبل، ما أعطى مزيداً من الزخم لمساعي بكين الرامية إلى ترسيخ دعائم دورها المستقبلي كقطب عالمي صاعد وفاعل إقليمي مؤثر، والتي تتأتى هذه المرة من توسل تحقيق اختراق تاريخي لحلحلة واحد من أعقد صراعات العالم وأطولها أمداً.
وتنبع أهمية الدور الصيني في ضبط إيقاع الصراع الذي يلقي بظلاله على شبه الجزيرة الكورية منذ ما يقارب السبعين عاماً، إن تصعيداً أو تهدئة، ليس فقط من كون الصين قوة عالمية صاعدة تحظى بثقل لافت وتأثير بالغ في الساحتين الإقليمية والدولية، كما تتمتع بحق الاعتراض أو «الفيتو» بمجلس الأمن الدولي، ولكن أيضاً لجهة خصوصية علاقاتها الوطيدة مع بيونغيانغ، والتي لاحت تجلياتها في الزيارة السرية والمفاجئة التي قام بها الرئيس الكوري الشمالي لبكين قبل أيام، وأرجع خلالها اختياره الصين لتكون أولى وجهاته الخارجية إلى كونها حليف بلاده الإستراتيجي، فيما تعهد نظيره الصيني العمل على إنهاء عزلة بيونغيانغ عبر توثيق عرى التعاون معها على مختلف الصعد.
فإبان الحرب الكورية (1950 – 1953) اختارت الصين الانحياز إلى الشطر الشمالي، وكان ماو تسي تونغ يعتبر مشاركة بلاده في تلك الحرب ضرورة إستراتيجية لمنع الولايات المتحدة من إعلان الحرب على الصين بعد احتلالها كوريا، وبينما كان الاسم الرسمي لتلك الحرب في كوريا الشمالية هو «حرب تحرير الأرض»، كانت تعرف في الصين بـ «حرب مقاومة أميركا ومساعدة كوريا». ومن ثم، لم تتوان بكين عن تقديم الدعم السخي لكوريا الشمالية، بما في ذلك الزج بقوات صينية للمشاركة في القتال، سقط منها 200 ألف قتيل خلال المعارك.
وطيلة العقود التي تلت الحرب الكورية، ظلت الصين تشكل حجر عثرة في مواجهة المساعي الدولية إلى إحكام الحصار والعزلة على بيونغيانغ. فحينما عمدت واشنطن وسيول وطوكيو إلى تشديد العقوبات الأممية والأحادية ضد الشطر الشمالي بجريرة إصراره على المضي قدماً في تطوير برامجه النووية والصاروخية، علاوة على ملفه في مجالَي الديموقراطية وحقوق الإنسان، كانت الصين بمثابة طوق النجاة لبيونغيانغ عبر مساعدتها على تحدي العقوبات والتحايل عليها بطرق شتى. وما إن تلوّح واشنطن أو سيول أو طوكيو بإمكانية إتخاذ إجراءات عقابية تصعيدية حيال استفزازات وتهديدات بيونغيانغ المتكررة، حتى تبادر بكين بمطالبة مختلف الأطراف بالتزام الهدوء وضبط النفس مع تأكيد رفضها أي إجراءات من شأنها أن تضر بالسلام الهش والاستقرار المترنح في شبه الجزيرة الكورية.
في ضوء ذلك الوضع المتشابك، يدرك المرء أن ما يجري مرتبط بالتنافس الأميركي الصيني المفعم بأجواء القلق والتوجس المتبادلين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي. وهو الأمر الذي تجلت ملامحه في إصرار واشنطن على تعزيز تموضعها الجيوإستراتيجي في شرق آسيا عبر إجراء سلسلة من المناورات العسكرية المشتركة والضخمة مع كل من كوريا الجنوبية واليابان، على رغم إدراكها الاستياء الصيني المتفاقم، علاوة على تلويـح إدارة ترامـب بإطلاق حرب تجارية عالمية لا تستبعد الصين، التي يتملك واشنطن قلق متصاعد من تضخم قوتها الشاملة، علاوة على مزاحمة نفوذها المتنامي نظيره الأميركي في بقاع شتى من العالم خلال الآونة الأخيرة.
كذلك، ترى الصين أن المخاطر القائمة التي يمكن أن تتأتى من أي مساع أميركية إلى زعزعة الاستقرار على حدودها مع شبـــه الجزيرة الكورية إنما تفوق في وطأتها نظيرتها المحتملة جراء انتشار الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية في المنطقة برمتها، خصوصاً في ظــــل مشاطرة بكين بيونغيانغ الاستياء من الوجود العسكري الأميركـــي في كوريا الجنوبية، فضلاً عن التحالف الإستــــراتيجي المـــريب بين واشنطـــن وكل من سيول وطوكيو بما يعزّز النــفوذ الأميركي في شبه الجزيرة الكورية. وفي ضوء ذلك، بدا مقدار القلق والاستياء الصيــــنيين إزاء المناورات العسكرية المشتركة بين واشنطن وسيول وطوكيو والتي تغذي مخاوف بكين من تطلعات واشنطن ومشاريعها الإستراتيجية في آسيا. كما ترى بكين في مشاريع واشنطن لتوحيد شبه الجزيرة الكورية لا يقل خطورة على المصالح الصينية في المنطقة.
وبناء عليه، لا تجد بكين أية غضاضة في استخدام الأزمة الكورية الشمالية كورقة مساومة في التفاوض مع واشنطن في شأن ملفات وقضايا خلافية كثيرة معلّقة بين الجانبين على أكثر من صعيد، بداية من التجارة والاقتصاد، مروراً بتايوان والتبت وحقوق الإنسان والديموقراطية في الصين والتنافس في بحر الصين الجنوبي، وانتهاء بسياسات التسلّح والتطلعات الإستراتيجية الطموحة للصين على الصعيدين الإقليمي والدولي. وهو ما يلقي بظلال إضافية من التعقيد على الأزمة المحتدمة في شبه الجزيرة الكورية، ويبقي ملفها مفتوحاً على أكثر من سيناريو على الأقل في الأمدين القصير والمتوسط، خصوصاً إذا ما أخفقت القمة المرتقبة بين ترامب وكيم الثالث في وضع خارطة طريق لطي صفحاتها الأليمة.
يبقى نجاح قمة ترامب – كيم في تحقيق اختراق تاريخي في أزمة شبه الجزيرة الكورية من خلال الاتفاق على خارطة طريق لنزع أسلحة بيونغيانغ النووية والصاروخية، مرتهناً بمدى قدرة الجانبين على التعاطي مع تحديات وألغام شتى لعل أبرزها: إصرار إدارة ترامب من جانبها على أن تأتي أية لقاءات أو محادثات مع الكوريين الشماليين تحت مظلة العقوبات القاسية، في وقت يتشبث كيم الثالث بحزمة الشروط والمطالب التي طالما أعلنتها بلاده في هذا الصدد، والمتمثلة في: فك الارتباط أو التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وسيول، وإنهاء المناورات العسكرية المشتركة والدورية بينهما، وسحب واشنطن القوات الأميركية المتمركزة في كوريا الجنوبية منذ العام 1953. وهي الشروط التي أعاد كيم الثالث تأكيدها خلال محادثاته مع نظيره الصيني، حينما شدد على أن المشاكل المتعلقة بنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية يمكن حلها إذا استجابت سيول وواشنطن لمتطلبات السلام بحسن نية، وساعدا على خلق جو من الاستقرار عبر اتخاذ تدابير تدريجية ومتزامنة من أجل تحقيق السلام.
أما وقد ألقى كيم الثالث بالكرة في ملعب بكين، تبقى الآمال معلّقة على ما يمكن أن تتمخض عنه الوساطة الصينية المحتملة والمدعومة من روسيا، التي أبدت بدورها ترحيباً بالقمة الأميركية الكورية الشمالية المرتقبة، لحلحلة مواقف أطراف الصراع عبر تقريب وجهات النظر وانتزاع نقاط التقاء من براثن غيوم التشدد والعناد وانعدام الثقة.