تراجيديا درويش

3

عباس بيضون

عشر سنوات على رحيل محمود درويش. يستوقفنا الوقت، كم مرّ بسرعة. بسرعة لا نكاد نشعر أنه حدث خلالها شيء في الشعر. حدث الكثير من العراك الدموي، حروب نشبت وحروب استمرت وتغلغلت في حياتنا حتى صارت جزءاً منها. 

إذا كان درويش قد رفض السياسة الدعائية، السياسة التعبوية، سياسة التحريض والخطابة والدعاوى، فإنه ظلّ يرى للسياسة شاعرية غير ذلك. ظلّ يرى للسياسة وجداناً وغناء مختلفين، ظلّ يرى للسياسة مبناها ولغتها وفكرها عشر سنوات على رحيل محمود درويش. يستوقفنا الوقت، كم مرّ بسرعة. بسرعة لا نكاد نشعر أنه حدث خلالها شيء في الشعر. حدث الكثير من العراك الدموي، حروب نشبت وحروب استمرت وتغلغلت في حياتنا حتى صارت جزءاً منها.

ربما كان محمود درويش في حساب كثيرين شاعر حرب لم تتوقف منذ 1948، لكنّ الحروب التي حدثت بعدها لم تحتج إلى شعراء ولم تتصل بشعراء.

لا نعرف من هو شاعر الحرب السورية أو العراقية أو اليمنية او اللبنانية، مع ذلك ظهر شعراء كثر، أجيال من الشعراء لم يتابعوا محمود درويش ولا رفاقه شعراء حرب فلسطين.

الأرجح أنّ الجيل الجديد من الشعراء الفلسطينيين لم يعودوا عند هذا الموضوع أو تلك النسبة. الحروب مشتعلة طوال سنين، وتستمر بدون شعراء، وبدون محتفلين بها. الحروب مستمرة لكنّ الشعر لم يعد دعوة ولا تحريضاً، الشعراء تنحوا عن الحرب ووقفوا بعيداً عنها. هذا بالتأكيد لم ينفعهم كثيراً لقد كانت الحروب ماء الشعر وحبره، كانت أيضاً أساسه ومبناه، وكانت قاموسه ولغته.

وبالطبع نشأت حولها بلاغة بل بلاغات وأساليب، وبالتأكيد تجمعت حولها فضاءات وتراتَبَ الشعراء حول موضوعها. كان أكثر شعر محمود درويش حول سقوط فلسطين، وبالتأكيد كانت الحرب جزءاً من ذلك، الحرب بخسائرها وآلامها وشهدائها وطقوسها.

الآن لا نسأل إذا خلف محمود درويش واحد في هذا السبيل ومن يكون خلَفَه. الآن نتساءل إذا كانت هناك حاجة إلى خَلَف لمحمود درويش أم أنّ درويش كان الخاتمة في هذا الباب ولن يليه آخر، فهذا الفضاء أغلق برحيله ولم يكن رحيل سميح القاسم بعده إلا توكيداً على ذلك.

لا نعرف أيّ باب آخر انفتح للشعر لكننا نتعجب من أن تكون المعارك في كل مكان والحروب شتى وليس من شعر يصاحب ذلك أو يبني عليه. ليس لهذا من تفسير مركّب إلا أن يكون الموضوع أو الفضاء قد برد في الشعر بقوة التواتر والتكرار وطول الأمد. لقد استُنفد أو كاد، لقد انتهى شعرياً في الوقت الذي لا يزال فيه عامراً متصلاً في الواقع. للشعر إذاً حياته الخاصة التي لا تجاري الواقع دائماً ولا تحاكيه ولا توازيه، فقد تقصر أو تطول عنه، إنها بالتأكيد تصدر عنه ولكن على طريقتها الخاصة، تحاول أن تنشىء شيئاً بمحاذاته وإزاءه، لكنها تستقل أكثر فأكثر عنه إلى أن تنقطع الصلة أو تكاد بينهما.

لا بدّ بالطبع أن يبقى شعر فلسطيني، ولا بدّ أن تبقى لهذا الشعر صلة بفلسطين وما يمتّ إلى فلسطين، لكنّ هذه الصلة تتعمق وتنبني في مطرحها، إنها تتطور وتتحول في موقعها حتى تغدو لها وسائطها وطرقها ورمزيتها الخاصة، تغدو لها أدواتها ولغاتها ولمحاتها وتكاوينها، تستقل هكذا عن موضوعها أو تخلقه على مقاسها وتعاود خلقه بحسبها وحسب مادتها، وتبني نظيراً له وموازياً، وإن من باب آخر. سيبقى الشعر الفلسطيني وهو باقٍ لكنه، كما فعل درويش نفسه في أخريات قصائده، سيبحث ويجد قدراً آخر وأقوالاً ثانية، أي أنه يقول نفسه وموضوعه ومادته بمبانيه ولغاته وبلاغاته وإيمائه هو.

إذاً سبق في هذه المقالة قول عن محمود درويش ينسب شعره الى الحرب، فليس معنى ذلك إنه شاعر مارشات عسكرية وملحميات بطولية، وتحريض خطابي، فليس هذا شأن محمود درويش، ولم يكن درويش في نضج شعره شاعر هتافات وتحريض.

الأرجح أن درويش في نضج شعره قد صحا على ذلك وتجنبه واعياً مبصراً وناوأه جهاراً وهو يعلم أنه بذلك يرتد على أوليته ومبتدأه. لا حاجة للقول أن محمود درويش لم يتمسك بهذه الأولية التي حصدت له جماهيرية وإسماً، ولم يتابعها.

كان وعيه للشعر وأمانته لنصه فوق ذلك وأبعد منه. لقد وعى أنّ الشعر ليس بجماهيريته ولا بدعواه ولا بتحريضه ولا بتهويله السياسي. مع ذلك وعى أيضاً أن السياسية ليست ارتجازاً بطولياً وليست تهويلاً كلامياً وليست دعوى بطولية وانتصارية.

كان ذلك ملازماً لوعي لا يستبعد السياسة ولا يراها برانية وغير شعرية. إذا كان درويش قد رفض السياسة الدعائية، السياسة التعبوية، سياسة التحريض والخطابة والدعاوى، فإنه ظلّ يرى للسياسة شاعرية غير ذلك. ظلّ يرى للسياسة وجداناً وغناء مختلفين، ظلّ يرى للسياسة مبناها ولغتها وفكرها على أن يكون كل ذلك من شعريتها الخاصة ولشعريتها الخاصة. لذا نجد أنّ غناء درويش السياسي مختلف عن الشعر السياسي كما جاءنا قبله، مختلف عن الخطابة والحماسة اللتين تختصران شعرنا السياسي، وعن الملحمية الزائفة التي تتكلم بلغة انتصارية بطولية.

لم يكن شعر درويش مديحاً وفخراً، كان ببسيط العبارة مرثية، كانت الهزيمة لا النصر هي مرجعه، كانت الخيبة وراء شعره، كانت الخيبة قدره، وأياً كان شعره البالغ السليقة الشعرية والسعة التعبيرية فإنه كان في الأغلب تراجيدياً.

كان محمود درويش بحقّ شاعر نكسة وإحباط بقدر ما كان شعره يتحول إلى يأس كونيّ، وبقدر ما كانت فلسطين تتحول الى أوذيسة.

 

التعليقات معطلة.