مفهوم الوعي شاسع ومتفرع ومترابط في الوقت نفسه، كالجسد الواحد، يستطيع كل فرد – متى رغب – أن يتعلم مفهوم الوعي بدرجاته، حتى يصل إلى الوعي الحقيقي والإنساني.
كما أن هناك أفرادا يمتلكون هذا الوعي بالفطرة، إذ إن لديهم شعور الاستحقاق لذواتهم، وأيضا حس المسؤولية تجاه الآخرين، ولديهم الانتباه والحضور الفطري لفهم مجريات الحياة وكيفية التعامل معها بسهولة ووعي ومحبة، والعكس تماماً، فهناك من اختلط عليه مفهوم الوعي، وحصره في مجال أو مجالين، وترك المجالات الإنسانية الأخرى، فلم يعد له دور بارز وإيجابي في الحياة، وعلى سبيل المثال تجد أفراداً يوسعون دائرة الوعي في مجال المادة وكيفية الحصول فقط على المال، معتقدين أن توافر المال فقط هو من يجلب السعادة أو الأمان.
لا بد أن ندرك أن الوعي عميق جدا، إذ إن هناك الوعي الروحي والذاتي والصحي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني، وجميعها مترابطة مكملة لبعضها، والوعي كالبذرة التي تحتاج إلى رعاية واهتمام وإعطائها المساحة الجيدة، ونقصد العالم الداخلي في حياة الإنسان، وبخاصة الجانب الروحي، الذي ينطلق منه كل شيء، ابتداء من علاقة الفرد بربه علاقة قلبية خالصة في تهذيب النفس وطمس الجحود والكبر والضعف والاستسلام، وللأسف فإن بعضنا يمسك فقط بالقشور أو الشكل، ويتغافل عن أن الله ينظر إلى القلوب والنيات ومدى الصدق والحب فيه. عندما نهذب الداخل يبدأ العالم الخارجي يتعدل ويصبح أكثر قوة ومتانة وسكينة وسلاما أيضا، حتى لو اعترضت الفرد الظروف والعوائق التي تعتبر من طبيعة الحياة يستطيع أن يتحلى بالهدوء الداخلي، الذي يهبه الله عز وجل ويرحمه به، وهو إحدى نعم الله وفضله علينا جميعا.
ولرفع درجات الوعي، يجب على الفرد التخلص من التراكمات القديمة وتنظيف الداخل، سواء أكانت مشاعر سلبية أم صورا ذهنية مؤلمة من الماضي، أم مواقف انتهت، لأننا نلاحظ تعلق بعض الأفراد بكل قديم، وعلى رغم أنه انتهى من حياتهم فإنهم ما زالوا متعلقين بالألم متمسكين به، وهم في ذلك يغذونه ويكبرونه في دواخلهم، وهو يقوم بالدور المطلوب؛ مزيد من الألم أو مزيد من الإحباط أو التشاؤم من كل جديد، ويغفلون عن أن التمسك بالماضي يجعل مساحتهم الداخلية مليئة بالسلبيات والأفكار والاعتقادات، أي لن تسمح للجديد بأن يدخل، فالمكان ضيق لا يتحمل القديم مع الجديد، لذا فمن المهم وقفة مع الذات للتخلص من هذه التراكمات، لكي يستطيع أن يتنفس من جديد وتبدأ حتى رؤيته للحياة تتغير وتتطور.
الفرد الذي يعطي نفسه مساحة من التأمل والتفكير بهدوء يستطيع أن يتخذ دور الملاحظ والمشاهد لكل الماضي والحاضر، وتلقائيا سيتمسك بالحاضر، لأنه بدأ يدرك ويستوعب جمال الحاضر وقوة اللحظة، وأن الحياة لا تنتهي بأحد، فهي مازالت مستمرة، أي عليه الشيء نفسه؛ أن يستمر في الحياة بالأسلوب نفسه، وهو التقبل والاستمرارية وعدم الالتفات إلى الأشياء التي انتهت من حياته، سواء أكان شخصا أم مشروعا أم علاقة أم مرحلة في حياته، وعندما يصل إلى هذه النقطة سيلاحظ جمال الاستمتاع بكل شيء يمر في حياته، حتى أبسط الأشياء سيسعد ويبتهج بها، هذه مرحلة عميقة جداً في الوعي تجلب بعدها وعيا أكبر، أي مزيدا من الأحداث الإيجابية في الحياة.
الوعي يتطلب التوازن بين الفرد وذاته، وهو التصالح معها واحترامها وتقديرها، فمعظم الانتكاسات تأتي من عدم التصالح مع الذات، فينشأ الصراع بين ما يريد وما لا يريد، وللأسف الغالبية يركزون على ما لا يريدون، فتكبر الفجوة الداخلية التي تجعل المرء محدود الرؤية والتفاؤل والانسجام مع ذاته، وهذا يعني عدم الانسجام والتناغم مع عالمه الخارجي، فتبدأ الامور تتلخبط في العمل ومع الأصدقاء والأهل، ومع كل شيء، وهنا يضع الفرد العتب واللوم على الظروف، مع أن الخلل ليس فيها، وإنما في داخله المضطرب، لذا مهم جدا التصالح مع اعتقاداتنا وأفكارنا ومشاعرنا، التي تعتبر الوقود والمحرك للفرد، لكي نصل إلى وعي
أعمق وأكبر.