محمد عبد الصادق
” كشف رحيل أحمد خالد توفيق الفجوة المتسعة بين الأجيال واختلاف الأدوات التي يستعين بها كل جيل للحصول على معلوماته ومصادر أخباره, فبينما جيلي ما زال أسيرا لوسائل الاتصال التقليدية من صحف وإذاعة وتليفزيون, نجد الجيل الجديد انصرف عن هذه الأدوات التي يعتبرها عتيقة, واعتمد على هاتفه الذكي بما يحمله من مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب ويمارس القراءة عبر الوسائط الإلكترونية على “الآي باد” و”التابلت”.”
يوم الإثنين قبل الماضي فتحت (الفيس بوك) خاصتي لأجد اللون الأسود وشارات الحداد تكسو معظم الصفحات وتحول موقع التواصل الشهير إلى ساحة ممتدة لاستقبال المعزين والمكلومين وكان الفقيد اسما واحدا: أحمد خالد توفيق .. يسبقه أحيانا لقب الدكتور وأحيانا أخرى وصف الكاتب والروائي الكبير .. أخذت أبحث في ذاكرتي عن صاحب الاسم .. لم أجد له أثرا ولم أستطع تذكر اسمه في خبر قرأته في الصحف أو لقاء تليفزيوني استضافه وفشلت في معرفة سر هذا الاحتفاء بالرجل.
ولما كانت ابنتي الكبرى التي تدرس الصيدلة من بين جموع المعزين .. توجهت إليها وسألتها معلوماتها عن الفقيد .. فجاءت إجابتها حاضرة أنه الدكتور أحمد خالد توفيق صاحب قصص الخيال العلمي والأديب الذي تنال مؤلفاته لقب الأكثر مبيعا في مصر .. سألتها ..هل قرأتي له شيئا .. فعددت قصصه ورواياته التي تقرأها منذ سنين .. أصبت بحالة من الاندهاش, فلطالما لُمت ابنتي على ضعف علاقتها بالقراءة واقتصار اهتمامها على الدراسة ومتابعة المسلسلات المملة على “اليوتيوب “, حتى أنها كانت تشترط عليَّ الحصول على خمسة ريالات فوق “مصروفها” لتقرأ مقالي الإسبوعي, وانتابتني حالة من الحزن والصدمة لجهلي بوجود هذا الرجل المهم, رغم أنني بحكم عملي بالصحافة, أهتم بالثقافة والأدب ومتابع جيد لما ينشر في الصحف وما تبثه محطات الإذاعة وقنوات التليفزيون والمواقع الإخبارية, وكنت أظن أنني ملم بما يحدث على الساحة الأدبية في مصر ويغبطني أقراني لامتلاكي معلومات عن مشاهير الموسيقى والغناء ونجوم الفن والسينما بمختلف أجيالهم.
فأنا أعرف جيل الشباب من الكتَّاب مثل عٌمر طاهر وروايته “شكلها باظت”, وأحمد مراد صاحب “الفيل الأزرق” , ومحمد صادق مؤلف “هيبتا” وهم من الجيل الأحدث من الراحل أحمد خالد توفيق الذي قضيت الأسبوع الأخير في قراءة سيرته الذاتية والتعرف على أعماله لعلي أستطيع سد الفجوة المعلوماتية التي أعاني منها منذ معرفتي بنبأ رحيله.
الشيء الذي خفف عني بعض الشيء أنني وجدت صحفيين كبارا ومشاهير لهم باع طويل في الثقافة والإعلام يشاركونني نفس حالة الجهل بأحمد خالد توفيق ويشعرون مثلي بنفس الصدمة من حجم الاحتفاء بوفاته.
لفت نظري أن الغالبية العظمى للمعزين على “الفيس بوك” من الشباب صغير السن, وعلى مدار أيام الأسبوع الفائت, توالى نشر فيديوهات لمئات الشباب من مريدي الأديب الراحل وهم يحاصرون مستشفى عين شمس التخصصي, حيث قضى الفقيد عقب إجرائه جراحة في القلب, وتكرر المشهد في مدينة طنطا بدلتا مصر مسقط رأس الفقيد, حيث توافد آلاف الشباب بمختلف انتماءاتهم وطبقاتهم الاجتماعية من القاهرة وسائر مدن مصر للمشاركة في جنازته ومرافقة جثمانه حتى يوارى الثرى وسط مشاهد بكاء وحزن حقيقي على الفقيد, من شباب طالما اتهموا بالمياعة والانكفاء على ذواتهم واشتكى أهاليهم مرارا من نكوصهم عن أداء واجبات العزاء وعيادة المرضى ورفضهم المشاركة في المناسبات الاجتماعية.
مظاهرة الشباب الحزينة على “الفيس بوك” أجبرت الكبار على المشاركة في حالة الحداد على أحمد خالد توفيق وسارع كبار المسؤولين الحكوميين بإرسال برقيات التعازي ومشاطرة أسرة الفقيد ومحبيه الأحزان, وانتقل الحداد إلى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية التي لم ينل الفقيد يوما اهتمامها؛ فأفردت الصحف القومية والخاصة صفحاتها للتعريف بالأديب الراحل ونشأته ومسيرته العلمية والأدبية واستضافت كبار النقاد والأدباء والمؤرخين للحديث عن مؤلفاته وتحليل أعماله والمكانة التي احتلها في الأدب المصري الحديث, ونشرت جامعة طنطا ؛ حيث درس وتخرج الفقيد بكلية الطب قسم أمراض المناطق الحارة ـ إعلان عزاء للمرحوم بجريدة الأهرام العتيدة على مساحة نصف صفحة يٌنعي فيه رئيس الجامعة والعمداء وأعضاء هيئة التدريس وفاة زميلهم الدكتور الأديب.
ولحسن الحظ كان للفقيد لقاءان تليفزيونيان يتيمان أجراهما قبل شهور قليلة من رحيله عن عمر 56 عاما وبعد أكثر من عشرين عاما على صدور أول أعماله الروائية, ولكن تم إذاعتهما ظهرا من قبيل سد ساعات الهواء, لذلك لم يشاهدهما أحد, ولكن عقب ضجة رحيله تم الاستعانة بهذين اللقائين لعرضهما في أهم برامج “التوك شو” التي تحظى بأكبر نسب المشاهدة , وراح المذيع يشير لما قاله الفقيد من أقوال مأثورة تشي بقوة موهبته وسعة ثقافته وقدرته على قراءة المستقبل , حتى أنه تنبأ بقرب نهايته عندما قال : “إن القطار وصل لمحطته الأخيرة”.
كشف رحيل أحمد خالد توفيق الفجوة المتسعة بين الأجيال واختلاف الأدوات التي يستعين بها كل جيل للحصول على معلوماته ومصادر أخباره, فبينما جيلي ما زال أسيرا لوسائل الاتصال التقليدية من صحف وإذاعة وتليفزيون, نجد الجيل الجديد انصرف عن هذه الأدوات التي يعتبرها عتيقة, واعتمد على هاتفه الذكي بما يحمله من مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب ويمارس القراءة عبر الوسائط الإلكترونية على “الآي باد” و”التابلت”.
ربما هذا يفسر سر شهرة أحمد خالد توفيق في أوساط الشباب لأنه فهم لغتهم وتعاطى مع مفرداتهم وأجاد استعمال أدواتهم, فاختار أن ينشر مقالاته على “الفيس بوك” في الوقت الذي رفضت كثير من كبريات الصحف نشرها اعتراضا على جرأة محتواها وعدم تقدير الكاتب حق قدره, فاتجه الرجل لمواقع التواصل الاجتماعي لعرض أفكاره والتعرف على آراء الشباب في أعماله والترويج لها, لتصبح بفضل “الفيس بوك” و”تويتر” أكثر الروايات مبيعا وشهرة بين الشباب رغم أنه لم يتم تحويل إحداها لمسلسل تليفزيوني أو فيلم سينمائي يشاهده الملايين.
تصاعدت حدة الاحتفاء الشعبي والرسمي بأحمد خالد توفيق بعد رحيله, وزاحم كبار المسؤولين في الدولة المصرية الحاليين والسابقين وأعضاء مجلس النواب ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات على مستوى الجمهورية وكبار الأدباء ونجوم الصحافة والإعلام الشباب في سرادق العزاء الذي أقيم له في مسقط رأسه, ليسرقوا الأضواء من الشباب الذين تركوا السرادق ووقفوا في الخارج , بعدما تسابق مصورو الصحف و كاميرات التليفزيون لتغطية العزاء , وتنافس المعزون اللامعون في الحديث عن علاقتهم المتينة بالفقيد والثناء على إنتاجه الأدبي ورقي لغته وتفرد أسلوبه في الكتابة .