حسن نافعة
إذا تمكّن النظام الإيراني من الصمود في وجه المحاولات التي لم تتوقف لإسقاطه من الداخل، والأرجح أن يصمد، وإذا باءت الجهود الرامية لإيجاد تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية بفشل نهائي، والأرجح أن تفشل، فسيصبح اندلاع حرب شاملة بين إيران وإسرائيل أمراً حتمياً يصعب تجنبه. بعبارة أخرى يمكن القول إن السؤال الذي بات مطروحاً على هذا الصعيد لم يعد يدور حول ما إذا كانت هذه الحرب ستقع، ولكن حول متى وكيف؟ ولأنه سؤال يشغل الآن بال أجهزة جمع وتحليل المعلومات ومؤسسات صنع القرار في عواصم عدة، فالأرجح أنه ما زال يثير الحيرة وبلا إجابة شافية حتى الآن. وعلى رغم صعوبة العثور على إجابة شافية عليه، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يثنينا عن المحاولة على رغم ما قد يكتنفها من مشقة. تنبع حتمية وقوع حرب مباشرة وشاملة بين إيران وإسرائيل، إن عاجلاً أو آجلاً، من عاملين رئيسيين ومترابطين: الأول يتعلق بطبيعة الدولة الإيرانية ومشروعها الثوري في المنطقة. فإيران دولة تقودها النخبة نفسها التي فجرت الثورة الإسلامية عام 1979، ومن ثم فإن الرؤى والسياسات التي تحكم وتتحكم في مسيرتها في المرحلة الراهنة تعكس سمتين، الأولى: عقائدية، مستمدة من أفكار جهادية إسلامية ألهمت الثورة وساهمت في تفجيرها؛ والثانية: براغماتية، مستمدة من التقاليد التاريخية للدولة الإيرانية ومن تراثها الامبراطوري، وهي تقاليد تختزن قدراً هائلاً من الصبر والحكمة والمثابرة على تحقيق الأهداف الموضوعة. ولا جدال في أن الجمع بين هاتين السمتين، عند تحديد الرؤى والاستراتيجيات والسياسات والبرامج، يساعد على التوصل إلى صيغ تحافظ على قوة الدفع الثوري، مع مراعاة أقصى درجات الحذر وعدم الاندفاع في الوقت ذاته. لذا أظن أنه من المنطقي جداً بالنسبة إلى دولة أطاحت نظام الشاه وأسّست نظام ولاية الفقيه، أن ترى في الولايات المتحدة وإسرائيل مصدر تهديد رئيساً لأمنها الوطني، ومن ثم أجدني أكثر ميلاً للاختلاف مع هؤلاء الذين يحاولون تصوير الموقف الإيراني المعادي للسياسات الإسرائيلية والداعم للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وكأنه مدفوع بأهداف انتهازية بحتة، تسعى إلى استغلال وتوظيف القضية الفلسطينية لخدمة أهداف إيران التوسعية في الدول العربية. صحيح أن سياسة إيران على هذا الصعيد تضاعف من قدرتها على توسيع نفوذها في المنطقة، لكنها تتسق في الوقت نفسه مع عقيدتها الدينية ورؤيتها السياسية معاً، الأمر الذي يضفي عليها قدراً كبيراً من الصدقية، بل وتجعلها أكثر جاذبية بالنسبة إلى أوساط عربية كثيرة، بما في ذلك أوساط تشعر بالقلق من تغلغل نفوذها داخل العالم العربي، مقارنة بسياسات الكثير من الدول العربية نفسها. لذا يبدو لي أن العداء الإيراني للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة حقيقي وليس مصطنعاً، ويعد أحد أهم الأسباب التي تجعل من اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل أمراً ليس فقط محتملاً وإنما حتمي أيضاً، خصوصاً إذا توفرت شروط معينة. العامل الثاني؛ يتعلق بطبيعة الدولة الإسرائيلية ومشروعها التوسعي. فقد ظلت بعد قيامها عام 1948 تدعي أنها دولة صغيرة محاطة بالأعداء من كل جانب، وذلك لإخفاء أطماعها وأهدافها التوسعية التي كانت ظاهرة للكثيرين. وعلى رغم أن حرب 67 أسقطت القناع الذي أخفت به وجهها القبيح، إلا أنها ظلت تكابر وتدعي أن الدول العربية هي التي ترفض السلام معها، إلى أن قرر السادات زيارة القدس عام 1977 وقام بإبرام معاهدة سلام معها عام 1979. ومع ذلك فقد واصلت عنادها وراحت تبرر إصرارها على إهدار الفرصة التي سنحت للتوصل إلى سلام شامل في المنطقة بادعاء أن دولاً عربية كثيرة ما تزال ترفض التفاوض معها. واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن قامت منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وقام الأردن بالتوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994. واليوم، وبعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو وأكثر من خمسة عشر عاماً على المبادرة العربية التي أقرّتها قمة بيروت عام 2002 وأكدت استعداد الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل فور انسحابها من الأراضي المحتلة وإعلان قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية في حدود 1967، لم تعد هناك ذرة من شك لدى كل إنسان سوي في أن إسرائيل هي المسؤول الوحيد عن تعثر التسوية بسبب رفضها التسوية على أساس الشرعية الدولية وإصرارها على استكمال مشروعها الصهيوني الساعي لإقامة دولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات. ولأن الدول العربية لا تملك بدائل أو آليات لإقناع إسرائيل أو لحملها على قبول تسوية متوازنة، بل وبدأ بعضها يتحدث علناً عن إيران كمصدر وحيد لتهديد الأمن القومي العربي، فمن الطبيعي أن تواصل إسرائيل الادعاء بأن العرب استسلموا لإرادتها وباتوا جاهزين لتسوية بشروطها وأن إيران أصبحت هي العقبة الرئيسة التي تقف حائلاً دون اكتمال المشروع الصهيوني. فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن لدى إسرائيل ما يكفي من دوافع الثأر من «حزب الله»، بسبب هزيمة قاسية كانت قد لحقت بها عام 2000 وعجزها عن الانتقام منه في الحرب التي شنتها على لبنان عام 2006، وأن تطورات الأزمة السورية أتاحت الفرصة أمام القوات الإيرانية لتصبح على بعد أمتار من مرتفعات الجولان، لتبيّن لنا بوضوح أن حرباً مباشرة وشاملة مع إيران، حتى من المنظور الإسرائيلي، أصبحت ليس فقط محتملة وإنما حتمية أيضاً.
ليس معنى ذلك أن الحرب ستقع غداً أو في المستقبل المنظور. إذ ينبغي التمييز بين احتمال وقوع مناوشات أو ضربات استفزازية أو ثأرية محدودة، مثل الضربة التي وجّهتها إسرائيل إلى مطار تيفور وأدت إلى مقتل ضباط وجنود إيرانيين واحتمال الرد عليها من جانب إيران، فهذا أمر وارد وقابل للتكرار في أي لحظة، وبين اندلاع حرب شاملة بين الطرفين، ولهذه حسابات دقيقة نظراً لما يكتنفها من مخاطر هائلة قد تؤدي إلى كوارث للمنطقة برمتها. فكما أن لدى كل من الطرفين دوافع أو حوافز تغري بشن الحرب، لديه كوابح تجعله يتردد كثيراً في المبادرة بها. فإسرائيل، والتي تتحرق شوقاً لتوجيه ضربة قاصمة للمفاعلات النووية الإيرانية ومراكز تصنيع الصواريخ بعيدة المدى بل وتسعى إلى تغيير النظام الإيراني نفسه، إلا أنها لن تقدم على شن الحرب بمفردها وتأمل أن يتخذ ترامب الشهر المقبل قراراً بالانسحاب من اتفاقية البرنامج النووي كي تضمن توتر العلاقات الأميركية الإيرانية بما يكفي لضمان مشاركة أميركية فعالة في الحرب، أو على الأقل للحصول على ضوء أخضر بشنها، مصحوباً بالتزام أميركي بالتدخل المباشر إن سارت الأمور على غير ما تشتهي السفن الإسرائيلية. والأرجح أن يؤدي الوجود العسكري الروسي في سورية، بكل ما قد يترتب عليه من التزامات قانونية أو أدبية مع الحليف الإيراني، إلى تفضيل الولايات المتحدة للسيناريو الثاني، أي منح إسرائيل ضوءاً أخضر للتدخل بمفردها على غرار ما جرى في 67، وعدم التدخل إلا إذا ساءت الأمور وسارت في غير صالح إسرائيل. وفي هذه الحالة يرجح أن تعمل موازين القوى العسكرية والسياسية بين الولايات المتحدة وروسيا كعامل مساعد للتعجيل بوقف إطلاق النار والعمل على احتواء الأزمة بما يحفظ ماء الوجه للحلفاء المحاربين بالوكالة. أما حسابات إيران فتبدو مختلفة عن الحسابات الإسرائيلية. فليس لإيران مصلحة في المبادرة بشن الحرب، بعكس إسرائيل، لكنها لا تستطيع في الوقت نفسه أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء الاستفزازات الإسرائيلية المحتملة، وبالتالي ستجد نفسها مضطرة للرد بطريقة أو بأخرى لكنها ستحرص في الوقت نفسه على عدم انفلات الأمور إلى درجة خروجها عن نطاق السيطرة. ومع ذلك يتعين الانتباه إلى أن القدرة على التحكم في مسار العمليات العسكرية، مهما كانت محدودة، ليست مضمونة، ومن ثم فانفلات الأمور وخروجها عن نطاق السيطرة ليس بالأمر المستبعد، خصوصاً وأن إيران تملك أوراقاً كثيرة للرد الموجع عسكرياً على إسرائيل أو حتى على القوات الأميركية الموجودة في المنطقة.
ولهذا السبب يبدو لي أن تصاعد الصراع العسكري بين إيران وإسرائيل، حتى ولو بدأ بمناوشات محدودة، قد يتطور بسرعة إلى حرب إقليمية شاملة. وعلى أي حال فمن المؤكد أن يحدد القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران من عدمه ما إذا كانت المنطقة ستنزلق سريعاً نحو حرب باتت حتمية بين إسرائيل وإيران أم أن الكوابح الإقليمية والدولية التي تبدو ظاهرة للعيان على الساحة السورية، ستحيلها إلى حرب مؤجلة.