توحيد الجهود والأفكار لدى الفرد أو على مستوى الجماعة هو ما بمثابة توحيد في الأساس والوجهة واختصار الزمن والطاقة المبذولة من أجل تحقيق أهداف كونية، والتوجيه هو كيفية التحكم في الطاقات وتنميتها لتخدم الهدف، وذلك لا يحدث إلا بتحديد الفكرة الأولى وتأصيلها في الإنسان؛ فهي التي تخول لنا التقدم في السير والكفاح من أجلها؛ فالفكرة هي أساس سلوك الفرد والجماعة بحيث يضحي من أجلها (بلال ابن رباح مثلًا)، والتنظير لا يحرك ساكنًا إذا كان مجرد توليفات منهجية خالية من المعنى الذي هو أساسه الحافز الداخلي الذي يمس الطبيعة الإنسانية في عمقها بدلًا عن اللف والدوران في السطحيات.
فنصف الفكرة بطبيعة الحال تؤول بنا إلى نصف الفعل، وهذا يحيلنا إلى فكرة (رجل القلة) الذي ذكره الأستاذ مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة)، ومفادها أن هو الذي دخل في ميدان فكرة هي الإصلاح، فمسخها (نصف فكرة) وأطلق عليها اسم (السياسة)؛ لأنه لم يكن مستعدًا إلا لنصف جهد، ونصف اجتهاد، ونصف طريق.
وطبعًا كما نعرف أن من يتولى أمور الغير يجب أن يكون رمزًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى في معرفة مكامن الطاقة في الذين دونه، لكن من لم يسعفه الحظ أن يحصل إلا نصف الفكرة ونصف الفعل، فسوف يستغل هذه لخدمة، إما نفسه، أو يفتح المجال بدون علمه لعودة المستعمر إما فكريًا أو ماديا، فطبيعة نشاطه في أصله فاقد لفعاليته؛ كونه قد خذل الفكرة، والفكرة المخذولة سوف تنتقم، ما يميز الفكرة الصحيحة هو قدرة تجسيدها على الواقع أو تحويلها تمثلات، سواء على السلوك أو الطبيعة أو قدرة صاحبها على شرحها وتقريبها إلى ذهن الآخر، وبهذا يمكن أن نشرح بهذه الاستعارة حرفيًا من الأستاذ مالك بن نبي، فلو أنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها قلت: إنه ليس مصنعًا تتحول فيه الأفكار إلى أشياء، بل هو مخزن تتكدس فيه الأفكار بعضها فوق بعض.
هنا يتضح لدينا مظهران من الانحراف، الغلو في الفعل أو التحليق في غيوم الأفكار، وكلاهما أمر غير محمود في ذاته، حيث إن الاصل بينهما هو التفاعل والحركية الدائمة من الطرفين والأصل في الأمر هو إمساك العصى من الوسط، فلا فعل دون تأسيس ولا تنظير دون فعالية، فالعلاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين العقل وحركة اليد بين تصور العقل للموقف واستجابة الجسم لذلك الموقف فإذا انعدمت هذه العلاقة بالزيادة أو النقصان واجهنا مشكلة في أدائنا لأي نشاط عملي.
وهنا يمكن أن نقول دون جزم أن العمل كل ناتج سلوكي للإنسان وكذا هو مصدر المعرفة الطبيعية كونه تفاعل مباشر مع الطبيعة فهي مصدر الخير المطلق، والتعامل معها يقتضي من الفرد سخاءً كبيرًا في العاطفة والتنازلات، إذًا فهو تطبيق لمعرفة حيزت من قبل من قبل فبقدر ما تكون المعرفة واضحة بقدر ما يكون التطبيق أسهل وذا فعالية، أما التنظير فيمكن أن يكون في رأي هو محددات ومبادئ عقلية صارمة، وينطلق من الواقع لكي يعود إلى الواقع، وإنتاج أفكار قابلة للتطبيق أو لنقل حلول عملية للإشكالات الحاصلة، وهو ربط بين المفاهيم العليا من القيم والأخلاق أو لنقل بين الفلسفة والواقع (العمل)، فهو وسيط كما أن الادراك يتوسط الخبرات السابقة والحل للموقف الحالي، والفكر أو التفكير هو بمثابة الحفر في المفاهيم المطلقة لتحويلها الى مدركات تصورية ومن ثم تطبيقات عملية، إذًا فأن تتحول ما بين الأول والثاني، ما بين أن تتمسك بأفكارك وانتظامها، إلى التنازلات العاطفية السخية في هذه الحالة، فسوف تكون قد قدمت كما من المبادئ، وبالتبع هدمتها في طريقك للحصول على المنفعة الطبيعية، وهنا دائمًا نعود إلى الإشكال الرئيس ألا وهو علاقة التنظير بالسياسة أيهما أسبق على الآخر أم هما متلازمان، والأستاذ مالك يرى أنهما متلازمان أو يتفاعلان ويتأثران ببعضها البعض كما قلنا أن لا فعل دون تأسيس ولا تنظير دون فعالية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان فكر مالك بن نبي عالميًا وحيويًا، فلماذا لم يتحقق على أرض الواقع إذًا، أم أنه فكر عقيم غير قابل للتطبيق؟ والجواب هو أن كل فكرة تحتاج إلى من يتبناها ويحوّلها إلى عمل ملموس. والفكر (البْنُ نَبويِ) النهضوي ينتظر من يجسده على أرض الواقع. وكان بن نبي نفسه مؤمنًا في قرارة نفسه أن المشاريع الكبرى لا تتجسد إلا إذا اجتمعت إرادتان: قلم العالم، وسيف السلطان.