«تنبهوا واستفيقوا…» لليازجي: صرخة إنذار للعرب جميعاً

1

 
ابراهيم العريس
 
«تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب – فيم التعلل بالآمال تخدعكم/ وأنتم بين راحات الفنا سلب – الله أكبر ما هذا المنام فقد/ شكاكم المهد واشتاقتكم الترب – كم تظلمون ولستم تشتكون وكم/ تستغضبون فلا يبدو لكم غضب – ألفتم الهون حتى صار عندكم/ طبعاً وبعض طباع المرء مكتسب – وفارقتكم لطول الذل نخوتكم/ فليس يؤلمكم خسف ولا عطب – لله صبركم لو أن صبركم/ في ملتقى الخيل حين الخيل تضطرب – كم بين صبر غدا للذل مجتلباً/ وبين صبر غدا للعز يحتلب – فشمروا وانهضوا للأمر وابتدروا من دهركم فرصة ضنت بها الحقب – لا تبتغوا بالمنى فوزاً لأنفسكم/ لا يصدق الفوز ما لم يصدق الطلب – خلوا التعصب عنكم واستووا عصباً/ على الوثام ودفع الظلم تعتصب – لأنتم الفئة الكثرى وكم فئة/ قليلة تم إذ ضمت لها الغلب – هذا الذي قد رمى بالضعف قوتكم/ وغادر الشمل منكم وهو منشعب – وسلط الجور في أقطاركم فغدت/ وأرضها دون أقطار الملا خرب – وحكم العلج فيكم مع مهانته/ يقتادكم لهواه حيث ينقلب – من كل وغد زنيم ما له نسب/ يدرى وليس له دين ولا أدب – وكل ذي خنث في الفحش منغمس/ يزداد بالحك في وجعآئه الجرب – سلاحهم في وجوه الخصم مكرهم/ وخير جندكم التدليس والكذب – لا يستقيم لهم عهد إذا عقدوا/ ولا يصح لهم وعد إذا ضربوا – إذا طلبت إلى ود لهم سبباً/ فما إلى ودهم غير الخنى سبب – والحق والبطل في ميزانهم شرع/ فلا يميل سوى ما ميل الذهب – أعناقكم لهم رق وما لكم/ بين الدمى والطلا والنرد منتهب- باتت سمان نعاج بين أذرعكم/ وبات غيركم للدر يحتلب – فصاحب الأرض منكم ضمن ضيعته/ مستخدم وربيب الدار مغترب – وما دماؤكم أغلى إذا سفكت/ من ماء وجه لهم في الفحش ينسكب – وليس أعراضكم أغلى إذا/ انتهكت من عرض مملوكهم بالفلس يجتلب – بالله يا قومنا هبوا لشأنكم/ فكم تناديكم الأشعار والخطب – ألستم من سطوا في الأرض وافتتحوا/ شرقاً وغرباً وعزوا أينما ذهبوا – ومن أذلوا الملوك الصيد فارتعدت/ وزلزل الأرض مما تحتها الرهب – ومن بنوا لصروح العز أعمدة/ تهوى الصواعق عنها وهي تنقلب – فما لكم ويحكم أصبحتم هملاً/ ووجه عزكم بالهون منتقب – لا دولة لكم يشتد أزركم/ بها ولا ناصر للخطب ينتدب – وليس من حرمة أو رحمة لكم/ تحنوا عليكم إذا عضتكم النوب – أقداركم في عيون الترك نازلة/ وحقكم بين أيدي الترك مغتصب – فليس يدرى لكم شأن ولا شرف/ ولا وجود ولا اسم ولا لقب – فيا لقومي وما قومي سوى عرب/ ولن يضيع فيهم ذلك النسب – هب أنه ليس فيكم أهل منزلة/ يقلد الأمر أو تعطى له الرتب – وليس فيكم أخو حزم ومخبرة/ للعقد والحل في الأحكام ينتخب – وليس فيكم أخو علم يحكم في/ فصل القضاء ومنكم جاءت الكتب – أليس فيكم دم يهتاجه أنف/ يوماً فيدفع هذا العار إذ يثب – فأسمعوني صليل البيض بارقة/ في النقع إني إلى رناتها طرب – وأسمعوني صدى البارود منطلقاً/ يدوي به كل قاع حين يصطخب – لم يبق عندكم شيء يضن به/ غير النفوس عليها الذل ينسحب – فبادروا الموت واستغنوا براحته/ عن عيش من مات موتاً ملؤه تعب – صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت/ دهراً فعما قليل ترفع الحجب- لنطلبن بحد السيف مأربنا/ فلن يخيب لنا في جنبه أرب – ونتركن علوج الترك تندب ما/ قد قدمته أياديها وتنتحب – ومن يعش ير والأيام مقبلة/ يلوح للمرء في أحداثها العجب».
 
 
> لا شك يلاحظ القارئ هنا على غير عادتنا، آثرنا تقديم هذه القصيدة بأكملها وذلك لسبب واضح: فهي فيها من المعاني المسكوبة بهندسة بالغة الدقة ما يجعل أي اختصار لها إضاعة لمعانيها التي يمكن اعتبارها أقوى صرخة وجهها أديب أو شاعر عربي لأمته. ونعرف أن الصرخة وصلت إلى درجة أن السطر الأول من القصيدة بات مع الزمن دعاء غاضباً يُردد في كل زمان ومكان حتى حين يكون الغاضبون على جهل تام بأن تلك العبارات مستقاة من قصيدة بالغة الطول، خطيرة المعاني كتبها ذات يوم بين القرنين التاسع عشر والعشرين واحد من كبار أدباء العربية ولغوييها، اللبناني إبراهيم ناصيف اليازجي.
 
> كان الشيخ إبراهيم اليازجي، أحد أعلام اللغة والأدب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهو ما أجمع عليه زملاؤه حين رثوه يوم رحل عن عالمنا أواخر عام 1906، فعد رحيله يومها خسارة ما بعدها خسارة، لتودعه الحياة الثقافية العربية بعد يومين. ومن بين الراثين خليل مطران الذي كان تلميذاً لليازجي، واشتهر بأنه قد رثاه ثلاث مرات، مرة حين توفي، وثانية حين نقلت رفاته من مصر إلى لبنان في 1913، ومرة ثالثة حين أقيم احتفال لإزاحة الستار عن تمثاله.
 
> واليازجي هو سليل الأسرة اليازجية التي أنجبت العديد من الأدباء، وكان أشهرهم والده الشيخ ناصيف اليازجي، الأديب واللغوي الكبير، وهي أسرة تعود أصولها إلى مدينة حمص في سورية. أما إبراهيم اليازجي نفسه فقد ولد وترعرع في بيروت وقرأ الأدب على أبيه، وكان في 1872 في الخامسة والعشرين من عمره حين تولى تحرير جريدة «النجاح فاكتشفه المرسلون اليسوعيون وكلفوه بأن يصلح الأسفار المقدسة وعدة كتب دينية وفكرية أخرى من إنتاجهم، فأنفق في ذلك العمل تسعة أعوام كانت مرحلة تدرب بالنسبة إليه مكّنه من أن يعزز عربيته ومن أن يتعلم إضافة إليها العبرية والسريانية والفرنسية.
 
> وهو قبل ذلك كان قد علم في المدرسة الوطنية بمدينة بيروت. وعند نهاية القرن سافر الشيخ إبراهيم اليازجي إلى مصر حيث عمل في صحافتها، مزوداً بخبرة صحافية وطباعية كان قد اكتسبها خلال إقامته في أوروبا لفترة بعد مبارحته لبنان. وفي مصر أصدر أولاً مجلة «البيان» شراكة مع الدكتور بشارة زلزل، غير أن تلك المجلة لم تعش سوى عام واحد اضطرت بعده لأن تحتجب، فأصدر مجلة «الضياء» الشهرية التي عاشت أكثر من ثمانية أعوام. ولقد توفي إبراهيم اليازجي في القاهرة ولم يكن قد بلغ الستين من عمره بعد.
 
> كان اليازجي شاعراً ولغوياً ومترجماً وصحافياً، وهو إلى ذلك خدم اللغة العربية الصحافية عبر ابتكاره حروفاً جديدة للطباعة حلت محل الحروف المغربية والآستانية التي كانت مستخدمة حتى ذلك الحين. غير أن هوى اليازجي الأول كان متجهاً إلى اللغة العربية بذاتها حيث أنه «بحبه اللغة العربية وارتياده أصولها وتفهمه عبقريتها أدى، في أبحاثه الموضوعية والنقدية وفي كتبه المؤلفة لهذا الغرض، عملاً كان منه جلاء جمال هذه اللغة، وظهور قدرتها على الاغتذاء ومجاراة سائر اللغات الحية في النمو والبقاء» كما يقول الباحث ميخائيل صوايا. واليازجي كان في «يقينه أن العربية التي استطاعت أن تعبر عن أدق المعاني والأفكار في العصور الغابرة، تستطيع اليوم أن تنهض بنقل المصلحات الحديثة ومواكبة مستلزمات العصر «وهو لا يرى، بحسب تعبير ميشال جحا «أن العجز كامن في اللغة نفسها، بل هو في تزمت البعض وإحجام البعض الآخر عن النهوض بها. إن العلة في العرب أنفسهم لا في اللغة العربية. وهو يرى أنه يجب النظر إلى اللغة على أنها كائن حي ينمو ويشيخ على عالم اللغة تقع مسؤولية تشذيبها وتطويرها وتحديثها بحيث تصبح قادرة على استيعاب المعاني الجديدة والمصطلحات الحديثة والمستحدثات العصرية». وعلى هذا الأساس عمل بدأبه على إعطاء معان عربية- أكثرها كان مبتكراً ولا يزال مستخدماً حتى اليوم- للعديد من المصطلحات الغربية الحديثة، كما وفر أسماء عربية للعديد من المخترعات الجديدة.
 
> وحين وفاته ترك إبراهيم اليازجي إلى جانب هذه القصيدة الرائعة، العديد من الكتب بين مطبوع ومخطوط، ومن أبرز كتبه «نجعة الرائد في المترادف والمتوارد» إضافة إلى ديوان شعره وكتابه المعجم «الفرائد الحسان في قدائد اللسان» الذي اعتبر مرجعاً لغوياً أساسياً لفترة طويلة من الزمن.

التعليقات معطلة.