مفيد فوزي
«تكلم، حتى أراك» عبارة شهيرة فيها إيجاز وبلاغة، ولا أعرف قائلها على وجه التحديد، فقد نسبت لكثيرين ولكن الأستاذ العقاد كان لاذع العبارة رغم علمه الموسوعى، تصادفت أن حضرت إحدى ندواته بصحبة الصحفية الراحلة «مديحة عزت» وهى من أقلام روزاليوسف واشتهرت بباب «تحياتى إلى زوجك العزيز» وكانت مديحة قد حاورت العقاد وكان الحوار ناجحاً وصادماً! لا أنسى أبداً ملاحظة للأستاذ العقاد فى ندوته الأسبوعية يوم قال «اسأل لنتواصل، ما تقعدش زى الجردل» وقد ضحكنا! طلب الأستاذ العقاد أن نسأل لنحقق فكرة السؤال ولعل أنيس منصور كان يحقق نظرة العقاد للتواصل، فقد رأيت فى مناسبة أخرى أنيس منصور وهو يمطر «الأستاذ» بعشرات الأسئلة عن عبقرياته «أشهر ما كتب العقاد» وربما للكاتب الرصين المحامى الكبير رجائى عطية رأى آخر باعتباره «مرجعية موثقة لفكر العقاد» رأيت وجه العقاد العبوس يتهلل كلما سأل أنيس منصور سؤالاً ويرد العقاد «اسأل يا مولانا فالسؤال نافذة المعرفة».
أصل إلى جوهر المقال وهو السؤال «ذخيرتى كصحفى وبضاعتى كمحاور»، فالسؤال عندى يثقب الصمت ويخترق الغموض وربما يكشف المستور، السؤال صرخة الداخل وشهقه العقل، السؤال حالة خروج من الجمود أو لنقل تنفس طبيعى للمخ، السؤال محاولة لاقتناص معرفة شاردة، السؤال علامة تأمل لواقع نعيشه وربما بإرادتنا وربما مرغمين، السؤال فكرة معتقلة فى الصدر تنتظر قرار الإفراج. السؤال تمرد على ثقافة كريهة سائدة بأنه محاولة لقلب نظام العادة والتعود، السؤال استفزاز نبيل لانتزاع الحقيقة، السؤال نبضة قلب فى دنيا العشاق وزفرة حادة عند المطحونين المهمشين، السؤال فضول مكتوم وجد طريقه للبوح، السؤال علامة استفهام معلقة فوق الشفتين، السؤال فضول يحمله طائر الشوق فوق أغصان الحيرة، السؤال صهيل الجوع إلى الفهم، السؤال موقف فى زمن لا يطيق المواقف، السؤال ابتزاز مشروع لمن يملك المعلومة، السؤال سلاح المحاور على الشاشات ومحبرة الكاتب الجاد، السؤال يشق السحب الملبدة لتمطر سماء الصدق، لو لم نسأل لاختنقنا من الجفاف، لو لم نسأل لقال الأحفاد «كانوا جبناء»، لو لم نسأل لصرنا قطيعاً من الخراف، لو لم نسأل فنحن لا نستحق الحياة، لو لم نسأل لخاصمتنا الحضارة وعاتبنا التحضر، لو كتمنا السؤال، نكون كمن من كتم الشهادة، لو أخمدنا أنفاس السؤال نكون قد أخمدنا أنفاس الوعى، لو غضضنا النظر عن السؤال نكون فاقدى البصر والبصيرة، لو ترددنا فى السؤال وبقى فى حلوقنا فابكوا على حالنا، لو امتثلنا لعدم السؤال فهى طاعة العبيد، لو عوقبنا على السؤال فيكفى شرف المحاولة، لو ظللنا نرى ولا نسأل لسلختنا ضمائرنا عقاباً، لو تلقيت أمراً بعدم السؤال يتعين أن أقف دقيقة حداداً على المواطنة.
لا أحد يملك أن يعتقل السؤال فى رأسى فهو فى تلافيف المخ يحيا، ولا أحد مخول للقبض على السؤال وهو يتهيأ للخروج من شفتى، السؤال فى ثقافة السؤال ليس كلمات مرصوصة مذيلة بعلامة استفهام، السؤال ضرورة للإيضاح بصوت هادئ بعد الصخب.
وحين يقول الرئيس فى مؤتمر عام «اسأل الرئيس» فهو يدعم مفهوم المواطنة، فالسؤال من مواطن والإجابة من أعلى سلطة فى الدولة، وفى نفس الوقت يخاطب جهاز الوعى فى كل منا، وحين يجيب عن سؤال، فهو يميط اللثام عن الحقيقة التى ربما غابت عن البعض منا، وفى إجابات الرئيس على أسئلة المواطنين وللدقة غضبهم المشروع، فهو ينبه للأصابع المدسوسة ووظيفتها الإشعال، ومن المهم بترها لأنها أصابع الأشرار كما يصفهم حين يطلب الرئيس أن نسأله، فنحن نعلم أنه يرى الصورة كلها أوضح وأدق وربما كنا نعرف من الصورة ظلالاً فقط، وأيضاً ربما شرحت الصحف جانباً من الحقيقة وتولت الشاشات مهمة الإيضاح لكنه لم يكتمل ولن يكتمل دون «تبصيرنا» بالواقع والمتاح بالأرقام، يريد السيسى أن يغرس فينا «ثقافة الأرقام» فهى لا تكذب، ومن هنا يواجهنا بالحقيقة حتى ولو كانت موجعة.
الرئيس- بوضوح شمس استوائية- يريد أن يجمع همسات الشارع وغضبه وضجيجه فى سؤال ويجيب عنه علناً لكل المصريين على موجات الإذاعة والتليفزيون، الرجل يراهن على وعى المصريين وليس صبرهم فقط.
الرجل، يقربنا من فكره ويلغى الفجوة والمسافة بين المواطن والحاكم، الرجل لا يتكلم من موقع رفاهية بل من قلب معركة مع إرهاب شرس يريد الفتك بالدولة بإشاعات مفخخة وفوضى يسعى إلى تأليبها، وأى طفل يفك الخط صار يعلم الحقيقة.