مشرق عباس
لن تتشكل الحكومة العراقية بسهولة، وتغريدة الصدر الشهيرة التي جمع بها أطراف تحالف محتمل مع العبادي وعلاوي وبارزاني والحكيم وآخرين، لن تكون كافية لإعلان مثل هذا التحالف، تماماً كمساعي قاسم سليماني لجمع المالكي والعامري في تحالف برئاسة الأخير.
صعوبة القضية وتعقيدها لا يتعلقان بنتائج الانتخابات فقط، بل بطبيعة المرحلة التي يمر بها العراق وخطورتها.
يمكن القول إن الانتخابات أفرزت خريطة معقدة جداً، وتقدم الصدر خبر جيد للعديد من الباحثين عن الاستقرار السياسي، لكنه يزيد تعقيد الموقف بالنسبة لتحقيق التوازنات الدقيقة التي قادت إلى إنتاج الحكومات العراقية السابقة.
الصدر غير مرحب به إيرانياً، لكنه ليس خطاً أحمر، كما أنه ليس مرحب به أميركياً لكنه أيضاً ليس خطاً أحمر، والفارق أن لدى الصدر نفسه خطوطاً حمر على أميركا وعلى المالكي والخزعلي وعدد من قيادات المسار الأقرب إلى إيران الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة.
ليس بإمكان الصدر إعلان استدارة كاملة في مواقفه ضد أميركا قبل أن تكون هناك ضمانات حقيقية من الجانب الأميركي حول مستقبل سياسات الولايات المتحدة في العراق، وهذه مهمة أكثر صعوبة من احتمال استدارة مرنة تجاه إيران.
الأنباء عن وصول سليماني إلى بغداد لقيادة تحالف جديد ليست بعيدة عن محاولة طهران تحقيق تلك الاستدارة الصعبة، والمشكلة أن سليماني لا يمتلك لتقديمه إلى العراقيين، بعد سنوات من التدخل غير المنتج في العراق، سوى محاولة إحياء «التحالف الشيعي»، وإعلان قسمة غرماء على تركة الوزارات العراقية بالطريقة التي درجت، وقادت إلى تدمير بنية الدولة وتحويلها إلى مرتع للفساد والتبديد والاستئثار الحزبي، كما قادت إلى «داعش» وتداعيات الاستفتاء الكردي.
لهذا تحديداً تم فهم سياسات العبادي الإدارية التي حاولت التقليل من حدة الاستئثار الحزبي، وإعادة ترتيب بنية المؤسسات المنهارة، على أنها سياسات عدائية ضد إيران، كما تم فهم تلك السياسات التي لاقت ترحيباً أميركياً وعربياً باعتبارها منحازة أو منقادة.
واقع الحال أن العبادي كان يأمل من خلال تحقيق تقدم مريح في الانتخابات بفرض آلية لتشكيل الحكومة تشبه تلك الآلية التي شكل من خلالها تحالف «النصر» الانتخابي، وملخصها أن تشترك في التحالف الحكومي القوى المؤمنة بتشكيل حكومة خارج نظام المحاصصة الحزبية أو ما يسمى «التنقيط»، وفي نطاق ضمان كتلة برلمانية داعمة للسياسات والبرامج الحكومية المتفق عليها من دون أن تسعى إلى تقاسم وزاراتها خصوصاً السيادية منها، في مقابل كتلة معارضة تراقب وتحاسب عن كثب.
لم تسنح للعبادي فرصة تشكيل تحالف انتخابي قادر على التوصل الى هذه الحكومة، بل أن الطريقة التي اعتمدت لهندسة كتلة «النصر» كانت مستعجلة ومرتبكة، وقادت في النهاية إلى عدم تحقيق نتائج باهرة. في المقابل نجح الصدر في هندسة كتلته الانتخابية، كما نجحت قيادات الفصائل المسلحة في هندسة كتلة «الفتح» ما دفع بهما إلى تحقيق نتائج غير متوقعة.
لكن هذه ليست نهاية الحكاية، فالخريطة لها إيجابيات كبيرة، وأفرزت دلالات جديدة على مستوى مزاج الشارع العراقي وأولوياته، ولن يكون بإمكان أي طرف العودة بسهولة عن تعهداته حول آليات تشكيل الحكومة، لكن ليس بالإمكان أيضاً تكوين جبهات على أساس الخطوط الحمر في وضع شديد الحساسية كالوضع العراقي.
والخلاصة أن الأطراف المختلفة مطالبة بالتوصل إلى حلول لا تقود إلى انهيار الوضع الأمني والسياسي في هذه المرحلة، على أن تقديم التنازلات بات أمراً مطلوباً وملحاً، ومن ضمن التنازلات الأساسية أن لا تتشكل الحكومة العراقية بمزاج سليماني، أو بمزاج بريت ماكورغ، فكلا المزاجين سيكون على العراق تحمل تكلفة عالية لإرضائهما، والمفاتيح يبدو أنها بيد مقتدى الصدر الذي سيكون عليه التقدمإلى تحالف بلا خطوط حمر، وعلى أساس قواعد حول شكل الدولة العراقية ومستقبلها، وفي نطاق رؤيته المعلنة عن حكومة مهنيين منتجين ونزيهين من خارج الأحزاب يراقبها البرلمان لكنه يحميها أيضاً من الضعف أمام الضغوط الخارجية.
العبادي بدوره يمتلك مفاتيح إضافية أبرزها التمسك بفكرته عن حكومة رصينة وقوية، وألا تقوده النتائج إلى القبول بما لم يكن ليقبل به لو كان حقق فوزاً كبيراً.
المفاتيح بيد القوى الشيعية الأخرى ومنها دولة القانون والفتح، التي عليها منح العراق فرصة التعافي على يد حكومة مستقرة، كما أنها بيد قوى سنية وكردية سيكون عليها تقديم تنازلات على مستوى توزيع الدولة ومؤسساتها كمغنم انتخابي في كل موسم.