محمد جلال مصطفى هو ديبلوماسي مصري سابق، وحاليًّا باحث في “كلية هيلر للسياسة والإدارة الاجتماعية” في “جامعة برانديز”.
أدّت عدة عوامل إثنية وقومية وتاريخية ودينية إلى نشوب النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. وتركّز هذه المقالة الموجزة على البُعد الديني لهذا النزاع، الذي تشير كلٌّ من الأحداث التاريخية والأحداث الأخيرة إلى أنه يكمن في صلبه. وهذا الواقع حقيقةٌ شبه بديهية. إلا أن ما لا يحظى غالبًا بالاهتمام الكافي هو مدى تأثير الدين في هوية الجهات المعنية في هذا النزاع، وفي المسائل العملية الشائكة، وفي السياسات والمواقف ذات الصلة – حتى على صعيد المشاركين غير المتدينين من كلا الجهتين. وما يترتب عن ذلك هو أن الدين يجب أن يكون أيضًا جزءًا من أي حل حقيقي لهذا النزاع المأساوي والمطوَّل، وذلك عبر طرقٍ ستعرضها الفقرة الختامية بشكلٍ موجزٍ جدًّا.
لماذا يكمن الدين في صلب هذا النزاع؟
تُملي عدة عوامل دينية مرتبطة بالدينيْن الإسلامي واليهودي الدور الذي يؤدّيه الدين كعاملٍ أساسي في النزاع، لا سيّما في ما يتعلق بحرمة الأماكن المقدَّسة وحكايات نهاية العالَم التي يسردها كلٌّ من الدينيْن، وهي عوامل تُفسد كل احتمالات قيام سلام دائم بين الجهتين. فيرى الصهاينة المتدينون المتطرفون في إسرائيل أنفسهم أكثر فأكثر على أنهم أوصياء الدولة اليهودية ومسؤولون عن تحديد شكلها، ويُبدون حزمًا كبيرًا حين يتعلق الأمر بأي تنازلات للعرب. ومن جهةٍ أخرى، تدافع المجموعات الإسلامية في فلسطين وفي أماكن أخرى من العالَم الإسلامي عن ضرورة تحرير الأراضي والأماكن “المقدَّسة” لأسبابٍ دينية، وتنشر العنف والكراهية ضد إسرائيل والشعب اليهودي.
وتتفاقم هذه الاضطرابات بفعل الشائعات القائمة على الدين التي ينشرها المتطرفون في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول جداول الأعمال الدينية التي يُخفيها الطرف الآخر. وتشمل بعض الأمثلة شائعاتٍ حول “مخطط يهودي” لتدمير المسجد الأقصى وبناء المعبد اليهودي الثالث على بقاياه، وشائعاتٍ تعتبر أن إبادة اليهود هي في صلب معتقد المسلمين من جهةٍ أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، تساهم الظروف الاجتماعية-الاقتصادية المتدهورة في العالم العربي والإسلامي في نمو التطرف الديني، ما يدفع بنسبةٍ أكبر من الشبان باتجاه التعصب والسياسة المستوحاة من الدين. ولسخرية القدر، شكّلت بداية “الربيع العربي” أيضًا خطرًا على السلام العربي-الإسرائيلي، إذ غالبًا ما كانت الأنظمة المستقرة سابقًا تواجه تحدي الرؤى السياسية المتطرفة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، الذين بعد أن خلفوا الرئاسة في عام 2012، هددوا بتقويض اتفاق السلام مع إسرائيل بالاستناد إلى أيديولوجيتهم الدينية – حتى لو لم يفسخوا المعاهدة فورًا.
التداعيات العملية على المفاوضات
إذا ما نظرنا عن كثب في قضايا الوضع الدائم – أي الحدود والأمن والاعتراف المتبادَل واللاجئين والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ومسألة السلطة على القدس – نجد أن المسألتيْن الأخيرتيْن مرتبطتان مباشرةً بإيمان كل الشعب اليهودي والشعب المسلم حول العالَم. فيبرز نزاعٌ كبير بشأن الملكية الأصلية للقدس والسلطة عليها بسبب وجود الأماكن المقدّسة الخاصة بالمسيحيين واليهود والمسلمين في هذه المدينة. كما يترسّخ هذا النزاع بعمقٍ في التاريخ، الذي تعرضت فيه القدس للهجوم 52 مرة، وللاستيلاء وإعادة التحرير 44 مرة، وللحصار 23 مرة، وللتدمير مرتين. وحكَمَ هذه المدينة المصريون القدامى والكنعانيون والإسرائيليون واليونانيون والرومان والفرس والبيزنطيون والخلفاء الإسلاميون والصليبيون والعثمانيون وأخيرًا البريطانيون، قبل أن تنقسم إلى القطاعين الإسرائيلي والأردني من 1948 حتى 1967.
وفي التاريخ اليهودي والتوراتي، كانت القدس عاصمة مملكة إسرائيل في خلال حُكم الملك داوود. كما أنها موطن “الحرم القدسي الشريف” و”حائط المبكى”، وهما موقعان مقدّسان جدًّا في الدين اليهودي. أما في التاريخ الإسلامي، فكانت المدينة تشكّل قبلة المسلمين الأولى (أي وجهة الصلاة لدى المسلمين). كما أنها مكان وقوع حادثة الإسراء والمعراج بحسب القرآن الكريم (أي التقدم إلى القدس والارتفاع إلى السماء، وتُدعى أيضًا الرحلة السماوية).
لذلك، يرتجع صدى قدسية مدينة القدس لدى الكثير من المسلمين حول العالم، وليس لدى الفلسطينيين فحسب. وتدل ردات الفعل في العالم العربي والإسلامي إزاء أحداث العنف الأخيرة في غزة والضفة الغربية بعد قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى القدس على أن الكثيرين ينظرون إلى هذه المسألة على ضوء الدين بشكلٍ أساسي. وتضمنت الروايات التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بشكلٍ عام في هذه البلدان بغالبيتها إشاراتٍ دينية، حتى بين في صفوف العلمانيين في الظاهر.
وتتمتع مسألة المستوطنات في الضفة الغربية بوجه ديني أيضًا. وهو يتعلق بالاستعادة المادية لأرض إسرائيل التوراتية قبل عودة المسيح، وهو أمرٌ يبقى في صلب معتقدات بعض اليهود المتشددين. فهم يواصلون الاستيطان في الضفة الغربية لتحقيق هذه النبوءة، فيتصادمون مع الفلسطينيين المحليين. ومن جهة أخرى، بحسب مدارس الإسلام الأصولية، في آخر الأيام، يجب أن تخضع كامل الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية للحُكم الإسلامي. وتترسخ النبوءات المحيطة بهذه المسألة بشكلٍ كبير في بعض نسخ الحديث (أقوال النبي محمد (صلعم) التقليدية)، مع أنه لم يتم التعبير عنها إلا بشكلٍ ضمني في القرآن الكريم.
التداعيات التاريخية والتنظيمية
بالعودة إلى حرب عام 1948، بررت بعض المجموعات اليهودية المتطرفة مساهمتها في النزاع كجزءٍ من العودة التي وعد بها الله إلى أرض إسرائيل المقدَّسة. لكن في وقتٍ لاحق، فرضت السلطات الإسرائيلية حظرًا على أكثر هذه المجموعات تطرفًا، على غرار تنظيم “غوش إيمونيم السري” الذي خطط لتفجير المساجد في منطقة الحرم القدسي الشريف في ثمانينات القرن المنصرم.
ومن جهةٍ أخرى، بررت عدة مجموعات دينية متطرفة كـ “الإخوان المسلمين” مساهمتها في النزاع عام 1948 كحدثٍ أخر مرتبط بمقاربة يوم الدين. وفي أيامنا هذه، تدعو فروع إرهابية من “الإخوان” مثل حركة “حماس” إلى استخدام العنف ضد إسرائيل باسم الإسلام، من دون التمييز بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. وما زالت تستخدم الدين لاكتساب المؤيدين في غزة وفي أماكن أخرى من خلال نشر هذه القصة حول نهاية العالَم. وتسعى إيديولوجيا هذه المجموعة من “الإخوان المسلمين”، التي تمتد في عدة بلدان عربية (وفي بلدان كثيرة غير عربية)، إلى إعادة إحياء الإسلام وإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية التاريخية عبر الاستيلاء على السلطة. وتعتبر أن إسرائيل هي “جسم غريب” في سلسلة الخلافة الإسلامية المحتملة، وتستمر في الدعوة إلى استخدام العنف ضدها.
وبموازاة هذا الطرف السني المتطرف، ومنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كانت إيران الأعنف في مواجهة إسرائيل. فيدعو نظامها المتشدد علنًا إلى تدمير إسرائيل ويؤكد على ضرورة هذا المطلب من وجهة نظر لاهوتية. وهي تموّل “حزب الله” و”حماس” وتزوّدهما بالأسلحة وتؤمّن لهما التدريب، بالإضافة إلى أنها تدعم قوات الأسد في سوريا، وتشكّل بالتالي خطرًا أمنيًا مباشرًا على إسرائيل – وتزعم أن كل ذلك باسم الإسلام.
التداعيات الاجتماعية
بالنسبة إلى بلدين عربيين، هما مصر والأردن، تم التوصل إلى عملية صنع سلام مباشرة مع إسرائيل. ورغم ذلك، لم تتبع ذلك عملية تطبيع ثقافي أو تطبيع بين الشعب والآخر من المفترض أن ترافق عملية السلام، وذلك لعدة أسباب – من ضمنها أسباب دينية. فقبول السلام مع إسرائيل يمكن أن يُعتبَر خيانةً دينيةً، لا تتعارض مع معتقدات المتطرفين فحسب بل أيضًا مع معتقدات عدة معتدلين نسبيين في الدول العربية. والنقطة الأساسية هي أن هذه الأشكال المختلفة من مسببات النزاع القائم على الدين لا تقتصر على المجموعات الدينية، بل ترتبط بقواعد أوسع في المجتمع. وينتج ذلك عن عامليْن أساسييْن هما:
تضارُب المصالح والهويات: تتداخل مصالح المتطرفين الدينيين المرتبطين مباشرةً بالمسببات الدينية على عدة أصعدة مع الفئات الأخرى في المجتمعات العربية والإسلامية. ويتشارك الطرفان بعض عناصر الهوية، أو ربما كلها. فعلى سبيل المثال، قد يتشارك فلسطيني قومي علماني وفلسطيني سلفي متطرف دينيًا في “كتائب القسّام” في حركة “حماس” وجهاتِ نظرٍ متشابهة جدًّا حول إسرائيل. وينطبق الأمر نفسه على بعض العلمانيين والتقليديين والأصوليين في مجتمعات عربية أو إسلامية أخرى.
الاستغلال المنهجي للروابط مع قواعد أوسع في المجتمعات: تعمّد المتطرفون الدينيون في العالم العربي والإسلامي وفي إسرائيل، سواء اتسموا بالعنف أم لا، استخدام الروابط الإيديولوجية والوظيفية للاتصال بقواعد أوسع في كلٍ من بلدانهم. فعلى الصعيد الإيديولوجي، يتم إنشاء روابط مع المجتمع الأوسع عبر محاولة زرع التطرف في عناصر قابلة، سواء بسبب ميولٍ طبيعية إلى الدفاع الذاتي المجتمعي الملحوظ، أو بسبب معرفة سطحية للديانة. فعلى سبيل المثال، قد يستخدم المتطرفون حادثةً عنف استثنائية ضد المجتمع اليهودي لتبرير الرد من مجتمعهم الأوسع. كما قد يتشارك أحد العرب التقليديين غير المتدينين مع الشخص الإسلامي الخوف من العلمانية ومن “النفوذ اليهودي”. أما على الصعيد الوظيفي، فيملك الأئمة المتطرفون في حوزتهم أدوات قوية جدًّا عبر العالم العربي والإسلامي لتعزيز العنف عبر مساجدهم ووسائل الإعلام التي يموّلونها، فيحافظون على خطاب العنف ضد إسرائيل والشعب اليهودي بشكلٍ عام على مسامع الناس.
عمليات التدخل الممكنة
بهدف المساهمة في الحد من العنف الديني في هذا النزاع، يمكن النظر في عدة عمليات تدخل ممكنة مثل: الحوار بين الأديان؛ واستذكار التعاون السابق المثمر بين اليهود والمسلمين منذ القرن السابع؛ والتركيز على النصوص الدينية التي تؤكد على القيم الدينية الإيجابية والمتسامحة، وتعزيز هذه القيم في الأنظمة التعليمية لدى كلا الجهتين. وقد لا تكون هذه الأفكار بجديدة، لكن ما يجب أن يكون جديدًا هو إلحاح هذا العنصر الديني ومحوريته كجزءٍ من أي جهدٍ حالي للتوصل إلى “اتفاق العصر” بين الإسرائيليين والفلسطينيين – أو حتى لمجرد تخفيف حدة النزاع وشق الطريق نحو التعايش السلمي في المستقبل البعيد.