الأردن هو الاقتصاد العربي الأكثر اعتمادًا على المساعدات والمنح، وصل حجم المساعدات خلال الفترة من 1970 إلى 2014 لنحو 34.716 مليار دولار، بنسبة 9% في المتوسط من إجمالي المساعدات المقدمة للدول العربية، وخلال الفترة من 1975 إلى 1980، بلغت نسبة المساعدات إلى الناتج المحلي نحو 30%، ومولت ما يزيد عن 50% من الإنفاق الحكومي حتى منتصف السبعينات، وفي عام 2003 بلغ متوسط نصيب الفرد من المساعدات حوالي 234 دولار أمريكيًا.
بما أن الأرقام هي لغة الاقتصاد، وبالنظر إلى الأرقام المذكورة نجد أن المساعدات والمنح على رأس مصادر الدخل في البلاد، ينتعش الاقتصاد بوجودها ويعاني في غيابها، فيما تعتبر المنح والمساعدات مصدرًا شديد التقلب وغير ثابت؛ إذ إنه مرتبط بالوضع الاقتصادي والسياسي للبلدان المانحة، فعلى سبيل المثال تراجعت مساعدات الخليج للأردن بسبب أزمة النفط، كما أن ارتباط المساعدات الوثيق بالسياسة يجعلها خاضعة لحسابات غير اقتصادية، كما حدث مع الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا؛ بسبب أزمة القدس: عندما هددت بوقف المساعدات بسبب عدم اعتراف البلاد بالقرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي. ولكن إلى أي مدى وصل اعتماد الأردن على المساعدات؟
الاقتصاد الأردني في أرقام – البنك المركزي الأردني
لا ترى المملكة أن الاعتماد على المنح والمساعدات أمرًا يدعو للخجل، أو أنه عيب اقتصادي يجب علاجه؛ لذلك أصبح البحث عن منح ومساعدات جديدة من خلال تقديم تنازلات سياسية أمرًا رائجًا جدًا على مستوى السياسة الخارجية للبلاد، فبحسب ما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» فإن الملك الراحل حسين، ملك الأردن، ظل يتلقى لمدة عقدين من الزمان ملايين من الدولارات من «الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه)» مقابل تقديم معلومات هامة إلى وكالة الاستخبارات المركزية، وكان الملك لا يرى غضاضة في الأمر، واعتبره جزءًا من المساعدات الأمريكية لبلاده.
اقرأ أيضًا:
إلى أي مدى وصل اعتماد اقتصاد الأردن على المساعدات؟
أجد لزامًا علينا، الوقوف في خندق واحد من أجل القدس
هكذا قال النائب البرلماني معتز أبو رمان تعقيبًا على قرارات الحكومة الأردنية برفع الأسعار مؤخرًا، وذلك في إشارة إلى أن تراجع المنح هو سبب الإصلاحات الاقتصادية الجديدة التي انتهجتها البلاد، وهذا جاء بسبب موقف الأردن السياسي، وهذا الأمر له دلالة واضحة على أن المنح والمساعدات هي محرك رئيس لاقتصاد البلاد، فبالرغم من أن الحكومة الأردنية تعمل على برنامج للإصلاح المالي والاقتصادي في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي منذ مدة، إلا أن هذه التغيرات لم تظهر، إلا بعد الهبوط الكبير في المنح والمساعدات التي تحصل عليها البلاد.
وبحسب وزارة المالية الأردنية فقد انخفضت المنح الخارجية التي حصلت عليها الأردن خلال أول تسعة أشهر من 2017 بنسبة 45.7%، مقارنة بنفس الفترة عام 2016. هذا الانخفاض دفع رئيس الوزراء هاني الملقي للقول: «يجب أن نعتمد على أنفسنا، وأن لا ننتظر أموالًا من الخارج»، موضحًا أن نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي ارتفعت منذ العام 2011 بنحو 4.5% سنويًا حتى وصلت إلى نحو 95.2% العام الماضي، كما تجاوز حجم الدين العام 38 مليار دولار بشقيه الداخلي والخارجي.
وبالنظر إلى خريطة المنح التي تحصل عليها الأردن؛ نجد أن الولايات المتحدة من أكبر الدول المانحة للبلاد بمساعدات تتجاوز مليار دولار سنويًا؛ إذ حصل الأردن على 1.21 مليارًا، مقسمة إلى 510 مليونًا على القطاع الأمني والعسكري، و213 مليونًا لتمويل الموازنة العامة، و188 مليونًا للخدمات الإنسانية الإغاثية، و82 مليونًا دولار للتعليم، و60 مليونًا للمجال الصحي.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية حصل الأردن على معونات من دول عربية، أبرزها المنحة الخليجية التي بلغت قيمتها ما يقارب 4 مليارات دولار مقدمة من السعودية والإمارات والكويت، ناهيك عن مساعدات من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، والقروض الميسرة من المؤسسات المالية العالمية، فيما كانت المملكة خامس أكثر الدول العربية استفادة من المساعدات الإنسانية خلال العام 2016، وفق تقرير صادر عن وكالة الأنباء الإنسانية (إيرين).
لماذا يعتمد الأردن على المساعدات؟
يعتبر الاقتصاد الأردني اقتصادًا ريعيًا يعتمد في أغلب إيراداته على الضرائب والرسوم، بينما تساهم قطاعات أخرى مثل الخدمات التجارية والسياحة وبعض الصناعات الاستخراجية كالأسمدة والأدوية بنسب أقل، بالإضافة إلى أن الأردن تشتهر بتصدير بعض المحاصيل الزراعية، لكن لا تشهد هذه القطاعات تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، بل إن التراجع يغلب على معظم هذه القطاعات، وبالنظر إلى بيانات البنك المركزي الأردني نجد أن أرقام الصادرات تتراجع بشكل ملحوظ، فيما عدا صادرات الملابس والأدوية اللتين تشهدان تحسنًا.
الاقتصاد الأردني في أرقام – البنك المركزي الأردني
على الجانب الآخر، قال البنك المركزي الأردني: «إن إيرادات قطاع السياحة بالمملكة بلغت 4.6 مليار دولار عام 2017، بارتفاع نسبته 12.5% عن عام 2016، كما زاد العدد الإجمالي للسائحين بنسبة 8.7%؛ إذ جاء 3.911 مليون سائح لليلة واحدة حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، مقارنة بـ 3.574 مليون أثناء نفس فترة الـ 11 شهرا من العام الماضي».
نشرة مالية الحكومة العامة – وزارة الـمـاليـة
وبالرغم من التحسن الملحوظ في الإيرادات السياحية، إلا أنها لا يمكن أن تعالج العجز في موازنة البلاد، خاصة أن زيادة الضرائب ورفع الأسعار مؤخرًا أدت إلى حالة من الركود في القطاعات الاستهلاكية كافة، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين؛ وهو ما قد يؤدي إلى تراجع الحصيلة الضريبية.
وبالنظر إلى التركيبة الاقتصادية نجد أن المنح والمساعدات من الأعمدة الأساسية لموازنة البلاد، لذلك يمكن لغيابها أن يفاقم عجز الموازنة بشكل كبير، ويضر أغلب قطاعات الاقتصاد؛ إذ تلعب المساعدات دورًا هامًا في الاقتصاد الأردني؛ ففي مقابل كل دولار من تلك المساعدات، يزداد الناتج المحلي بحوالي 2.28 دولارًا، ويزداد الإنفاق الاستهلاكي 2.25 دولارًا، بالإضافة إلى 1.91 دولارًا زيادة في الإنفاق الاستثماري.
هل يستطيع الأردن الاعتماد على الذات؟
لم تتحدث الحكومات الأردنية عن فكرة الاعتماد على الذات بشكل جاد، إلا بعد أن تراجعت المنح والمساعدات بالفعل، إذ يرى النائب خيرو صعيليك، رئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب الأردني، أنه آن الأوان أن تعتمد الحكومة على ذاتها في معالجة الشأن الاقتصادي، دون اللجوء إلى المنح والمساعدات، والتي يتوقع انحسارها بشكل أكبر خلال السنوات القليلة المقبلة.
ما عاد حد يعطينا فلوس
هكذا قال رئيس الوزراء الأردني، خلال لقائه القطاع التجاري في غرفة تجارة عمان منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 2017، موضحًا أن اقتصاد بلاده سيرى النور في منتصف العام 2018، قائلًا: «نحن في وضع يجب فيه الاعتماد على الذات»، يأتي تصريح المقلي في ظل تراجع حجم مساعدات السعودية للأردن خلال 2017 إلى 165 مليون دولار، مقارنة بـ 474.3 مليون دولار في عام 2015، وهو تراجع حاد في مستوى المساعدات، أرجعه البعض إلى الفتور في العلاقات السياسية بين السعودية والأردن.
السؤال الآن كيف يمكن للأردن الاعتماد على الذات؟ في الواقع هناك طريقان يمكن أن تلجأ الحكومة الأردنية إلى أحدهما، الأول: الطريق السهل، وهو تحميل المواطن الأردني تكلفة التراجع في المنح من خلال زيادة الضرائب ورفع الدعم عن السلع الأساسية كالخبز والأدوية، وهو بالفعل ما تفعله الأردن حاليًا، والطريق الثاني: هو العمل على تنشيط قطاعات الاقتصاد لتعويض المفقود من المنح والمساعدات، بالإضافة إلى تقليص الهدر ومحاربة الفساد وفرض الشفافية في دوائر الدولة، إذ يقول صعيليك، إنه على الحكومة مراجعة مجمل سياساتها الاقتصادية والمالية، وزيادة إيراداتها عبر استقطاب الاستثمارات الاهتمام أكثر بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة ودعم الأفكار الريادية وغيرها.
بينما اعتبر قاسم الحموري، خبير الاقتصاد الأردني، إن الزيادات الأخيرة في الضرائب وارتفاعات الأسعار الناتجة عنها، والتي طالت هذه المرة سلعًا حيوية وأساسية، أهمها الخبز والأدوية، ما هي إلا نتاج عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من اتباع سياسيات حقيقية وناجحة للإصلاح الاقتصادي.
على الجانب الآخر، يواصل الأردن العمل بوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين خلال ما يقرب من العقدين من الزمان، وذلك للخروج من المأزق الاقتصادي، إلا أن الوضع يكاد يخلو من أي تحسن يذكر، فمنذ بداية العقد الحالي شهدت معظم موارد البلاد تآكلًا بشكل ملحوظ، سواء في مساعداته الخارجية، ومواد تصديره وكمياتها؛ وهو الأمر الذي دفع المملكة للارتباط بجدول إصلاحي جديد مع صندوق النقد الدولي، جدد أكثر من مرة.
في المقابل، كشفت دراسة أجراها «مركز الدراسات الإستراتيجية» في عمان أن «برامج صندوق النقد التي طبقت في الأردن منذ 28 عامًا لم تحقق غاياتها، بل ساهمت في التهميش الاجتماعي، وزيادة الديون إلى ما يقرب من نحو 40 مليار دولار، وتشكل أكثر من 96% من الناتج المحلي الإجمالي»، بينما يقول أحمد عوض، مدير «مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية»: «إن عقول جميع صانعي السياسات الاقتصادية في البلاد تفترض أنه بدون الحصول على المنح والمساعدات لن يتمكن الاقتصاد من المضي إلى الإمام، لذلك تجد الحكومة نفسها مضطرة للاستدانة دائمًا».
ووفقًا لتقرير صدر عن «الفينيق» فإن تنفيذ الحكومات لتوصيات صندوق النقد الدولي الداعية إلى تحرير الاقتصاد الأردني، واعتماد فلسفة اقتصاد السوق الحر، وتحرير التجارة الخارجية والأسعار، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وخصخصة الشركات الحكومية وانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية خلال الأعوام العشرين الماضية أدت إلى واقع اجتماعي خطير في البلاد.
أخيرًا يمكن تلخيص الروشتة التي يجب أن تنفذها الأردن للإقلاع عن إدمان المنح والمساعدات في عدة خطوات، منها:
أولًا: خطة إنعاش سريعة لقطاعات (السياحة – الزراعة – الفوسفات – الأدوية – الملابس)؛ إذ إن هذه القطاعات هي التي تستطيع تعويض التراجع في المنح والمساعدات، وكما يقول عضو غرفة صناعة عمان ورئيس حملة «صنع في الأردن»، موسى عوني الساكت: إنه «لا شيء ينهض بالدول اقتصاديًا واجتماعيًا مثل الصناعة، لذلك فإن الحكومة مطالبة بإنعاش القطاع الصناعي من خلال جذب استثمارات أجنبية للقطاع، بدلًا عن مساعي طلب المنح والمساعدات».
ثانيًا: يجب على الحكومة كذلك الاهتمام بمحاربة الفساد؛ لأنه أحد أهم أسباب إهدار موارد البلاد؛ إذ انتشر الفساد بشكل ملحوظ في البلاد مؤخرًا، حيث يتحدث الشارع الأردني عن أن الفساد في السنوات الأخيرة طال مشروعات حكومية، مثل مشروع «سكن كريم لعيش كريم»، وهي مبادرة ملكية تتضمن بناء 100 ألف شقة على مدى خمسة أعوام، بالإضافة إلى شبهات فساد مالي وإداري في بيع عوائد الفوسفات.
يشار إلى أن الأردن قد احتل الترتيب 57 عالميًا على مؤشر مدركات الفساد بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2016، والذي شمل 176 دولة، متراجعًا 12 مركزًا عن نتيجته في عام 2015، والذي احتل فيه الأردن المرتبة 45، ليحقق 48 نقطة مقارنة بـ53 نقطة حققها في 2015.
ثالثًا: يحتاج الأردن كذلك لمعالجة تفاقم الواردات وإيجاد بدائل محلية حقيقية، فمثلًا يستحوذ قطاع الطاقة في الأردن على جزء كبير من فاتورة الموازنة العامة، وصلت إلى 3.3 مليارات دولار في 2015، بينما يرى نقيب الجيولوجيين، صخر النسور، أن هناك بدائل محلية يمكن أن توفر 50% من كلفة استيراد المواد المنتجة للطاقة، ومنها: «إنشاء سلة للطاقة من الرياح، والشمس والصخر الزيتي، وخامات اليورانيوم والنحاس، ورماد السيليكا، وتطوير حقل الريشة لزيادة كميات الغاز المنتج».