محمد بدر الدين زايد
حالة الانشغال العالمي المتكررة خلال مسابقة كأس العالم لكرة القدم تثير الكثير من الأبعاد السياسية والمجتمعية الشاملة التي تحتاج إلى وقفة لمعرفة آثارها الخطيرة في عالم اليوم. وأعترف أنه حتى سنوات قليلة ماضية لم أكن حتى متابعاً لهذه الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ثم بدأت ذلك خلال وجودي في جنوب أفريقيا مع كأس العالم 2010، فأخذت أرصد الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه الظاهرة المهمة في غالبية المجتمعات، كما لفتني أنه مع الضجة الشديدة التي تثيرها هذه الرياضة عربياً، فإنه نادراً ما تكون هناك متابعة لأبعاد ذلك مجتمعياً كما تندر متابعة الدراسات والرؤى العلمية في هذا الصدد. ربما البداية يجب أن تكون من حقيقة أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) هو أحد أبرز التطبيقات الأولى للعولمة في تاريخ البشرية، والأهم أنه تطبيق شديد النجاح والنفوذ بحيث لا ينازعه أحد في مجال نفوذه، والدول التي حاولت أن تتدخل في هذا المجال تراجعت ولم تتمكن من مواصلة التحدي، في شكل مخالف لبعض تطبيقات العولمة في مسائل أخرى كحقوق الإنسان مثلاً، التي يرجع التخبط والتذبذب فيها إلى ارتباط بالمعايير المزدوجة وتوظيف هذه الأداة من جانب أطراف غربية. ولكن ظروف النشأة ذات الطابع الفني الصرف والمرتبط بقيم رياضية سمح لـ(فيفا) بالتطور الطبيعي على رغم العثرات وتورطات الفساد التي لم تعرقل حتى الآن استمرار هذه التجربة متماسكة بدرجة كبيرة. اقتصادياً، تحولت الظاهرة الكروية إلى صناعة ضخمة، خصوصاً في أوروبا، صناعة تقدر ببليونات الدولارات، وحتى في بقية دول العالم أصبحت تمثل نسبة معتبرة من الاقتصاد الخدمي، ويعتمد عليها قطاع التسويق والإعلان بدرجة كبيرة. ومن ناحية أخرى أثارت شهية الكثير من قصص الفساد واستغلال النفوذ، فمن وقت إلى آخر تتكشف حالات تلبس وفساد مالي في أنحاء المعمورة، فضلاً عن مسؤولي الفيفا ذاته، والذين تلاحقهم دوماً الشكوك والاتهامات.
ومن النواحي السياسية، فالأمر بالغ الاتساع والأهمية، فبشكل أو آخر أصبحت الظاهرة أهم تعبيرات الشعور القومي في غالبية دول العالم، بل أصبحت تطغى على الانتصارات العسكرية التي نادراً ما تحدث الآن، وأصبحت مشوبة بالكثير من التساؤلات. فمنذ سنوات طويلة أصبحت الانتصارات الكروية مصدراً للسعادة القومية، ولكن اللافت أن الظاهرة تزداد رسوخاً وتأثيراً عن ذي قبل، وأنها أصبحت تعوض الإحباطات السياسية إلى تعرفها شعوب العالم المختلفة، حتى تلك الأكثر وعياً وثقافة، وهي إحباطات مفهومة في ضوء التباس المفاهيم وعدم وضوحها وازدياد اتساع الرماديات في أوضاع العالم. فمثلاً هل يفخر كل الشعب البريطاني أو الأميركي بنجاحاتهما في العالم العربي (العراق نموذجاً)؟ هل يشعر الشعب الإيراني بطعم النصر في سورية؟ إذن أصبحت كرة القدم تحقق هذا النوع من الشعور الوطني المفتقد في عالم اليوم المعقد، يستوي في ذلك ولو بدرجات مختلفة بحسب نضج الشعوب ومستويات التعليم والثقافة دول كبرى كألمانيا والمملكة المتحدة واليابان، ودول صغيرة فقيرة في أفريقيا وأميركا الجنوبية، أي شعور بالسعادة لدى الشعب المكسيكي كقوة متوسطة وهو يطيح ألمانيا كدولة كبرى متقدمة تحظى باحترام العالم، والأكثر عندما تتمكن دولة فقيرة وصغيرة نسبياً كالسنغال من منازلة دولة أوروبية أكثر ثراءً وتقدماً. والمفارقة التي تستحق التأمل هنا أن الشعور بالفخر أو الإحباط القومي مبني على أسس غير دقيقة ومضللة في كثير من الأحيان، وأن هذه المشاعر تتضخم وتصبح مبالغاً فيها لدى المجتمعات الفقيرة أو الأقل إنجازاً اقتصادياً ومجتمعياً. بمعنى آخر أن هذه المجتمعات التي تواجه تحديات اقتصادية أو مجتمعية قد تراهن في الاتجاه الخطأ على هذه الأداة الكروية، بما يجعل النجاح فيها أن تُحقق دون الأبعاد الحياتية الأولى هو مجرد تطبيق لنظرية الجزر المنعزلة في التنمية وهي من سمات هذه الدول عموماً. ومن ناحية أخرى إذا لم يواتها الحظ لأسباب لا حصر لها قد يزيد هذا من مشاعر الإحباط واليأس القومي، وهي مشاعر في ذاتها تشكل عبئاً على عملية التنمية الشاملة والمستدامة.
من ناحية أخرى، لعبت كرة القدم دوراً سلبياً خطيراً في كثير من حالات النزاعات الدولية، ومن أشهر الأمثلة هنا حالة هندوراس والسلفادور التي انقلبت إلى نزاع مسلح والحالة المؤسفة المصرية– الجزائرية عام 2010، على أن الشاهد أن الحالة الأخيرة وقعت نتيجة لاعتبارات معقدة قامت بتوظيف هذه المشاعر الوطنية المزيفة لتوليد واختلاق الأزمة السياسية بين البلدين الشقيقين والتي تم تجاوزها. وأكدت دروس هذه الأزمات أنه لا بأس من توظيف هذه الأداة الكروية في حشد وتعبئة الشعور الوطني، ولكن مع توافر شرطين، أولهما عدم تجاوز الآلة الإعلامية في الحشد والتعبئة لخطوط العقلانية بما يؤدي إلى حالات الإحباط الوطني، والثانية تعليم المجتمعات أن الظاهرة في النهاية رياضية وليست عسكرية، وأن الخلق الرياضي والحضاري يعني تكريس احترام ثقافة الكسب والخسارة، وتقبل الآخر.
كما أن ارتباط هذه الظاهرة المتزايد بالشعور الوطني، حوّلها أيضاً لأن تصبح أحد أدوات التعبئة والحشد السياسي الداخلي، ومن ثم أصبح الساسة يستخدمونها على نطاق واسع لاكتساب الشعبية والمكانة، فضلاً عن كونهم ذاتهم مواطنين مولعين باللعبة وثقافتها وتأثيرها النفسي في الجماعة. وربما كان مشهد رئيسة كرواتيا في حالة انفعالية عاطفية في غرفة لاعبي بلادها بعد الفوز على الدنمارك هو التعبير الواضح للمدى الذي تتفاعل فيه السياسة مع اللعبة ويتفاعل الجانبان في مشهد واحد بصرف النظر عن دوافعه، ليسعد أنصار الرئيسة الكرواتية، ويغضب خصومها باتهام أنها تحاول زيادة شعبيتها باستغلال هذا المشهد. وهذا المشهد المعتاد متكرر في المجتمعات المختلفة، فهؤلاء الساسة حتى لو حاولوا ركوب هذه الأمواج فسرعان ما تصيبهم بدورهم لوثة الحماسة والاندفاع مثل جماهيرهم.
وعلى المستوى المجتمعي يتجاوز العالم منذ سنوات طويلة مفاهيمه التقليدية حول الرموز والأبطال من نظرة تقليدية كانت تركز على العلماء والأدباء والساسة ثم زاد فيها دور الفنانين، ليستمروا ولكن بتراجع كبير لحالة هستيريا جماعية حول نجوم كرة القدم، الذين أصبح بعضهم يحقق من الشهرة وجمع الأموال ما لم يكن متصوراً، بحيث أصبحوا أيقونات دولية ومحلية بالغة النفوذ والمكانة، ولم يكن غريباً أن يتمكن بعضهم من تبوؤ مراكز سياسية واقتصادية بارزة بعد اعتزالهم، وربما كان من نماذج ذلك أخيراً رئيس ليبيريا. ومن ثم أصبحت كرة القدم تتصدر مظاهر الحراك الاجتماعي، وأصبحت لها أهمية كبيرة في عمليات التنشئة الاجتماعية، ولهذا لم يعد غريباً رؤية العائلات في العالم تدفع أطفالها تجاه هذه اللعبة بأكثر من الأنشطة الأخرى المختلفة من علمية وفنية ورياضية أخرى.
ومن ناحية أخرى، وفي ما له صلة بقضايا العلاقات الدولية، فإن كرة القدم أصبحت من أهم مجالات القوى الناعمة، فمن دون شك كانت البرازيل هي النموذج الأول في هذا عندما كسرت حاجز الدول المتقدمة واكتسبت شعبية دولية كبيرة تفوق إمكاناتها من منتصف القرن الماضي. وقد لاحظتُ في خلال عملي في جنوب أفريقيا، أن هذه الرياضة أصبحت تمثل أهم مصادر القوة الناعمة والشعبية في القارة الأفريقية المنقسمة ما بين ثلاث لغات رئيسة هي العربية والإنكليزية والفرنسية فضلاً عن مئات اللغات المحلية، وأن كرة القدم تلعب الدور الذي كانت تلعبه الثقافة المصرية في العالم العربي، بحيث أصبحت رموز هذه اللعبة أكثر شهرة على مستوى القارة من رؤساء بلادهم، كما لعبت دوراً إيجابياً للغاية في تقريب الشعوب الأفريقية التي تخلص بدرجة كبيرة في تأييد منتخبات القارة ضد الدول غير الأفريقية. والإعلام العربي ووسائل التواصل الاجتماعي تتحدث بإفراط عن تأثير اللاعب المصري محمد صلاح كقوة ناعمة إيجابية ليس فقط بالنسبة لصورة مصر وإنما أيضاً لصورة العرب والمسلمين في بريطانيا والغرب. واختتم بأمر آخر إيجابي وهو التقريب بين الشعوب، ففي وقت زادت نزعات التطرف القومي والعداء للمهاجرين في أوروبا تطل علينا غالبية المنتخبات الأوروبية الغربية بألوانها المتعددة بل وبنسبة معتبرة من ذوي الأصول الأفريقية والعربية خصوصاً من المغرب العربي لتكشف جانباً مهماً من الصراع والتفاعل المعقد بين الاتجاهين العنصري والعولمي الذي ما كان سيحظى بفرصته إلا بسبب تميز هذه العناصر من أبناء المهاجرين، ولتؤكد الظاهرة الكروية مرة أخرى صدارتها في مجال العولمة، وعدم إمكانية ارتدادها وهو أمر أقدر أنه سيزداد وضوحاً في المستقبل على رغم التحديات الآنية؛ لأن هذه الرياضة ذاتها بما ترسخه من رسائل الشعور الوطني سترسخ لدى هذه المجتمعات الغربية أن هؤلاء اللاعبين ذوي الأصول غير الأوروبية جزء من رموز وأبطال هذه المجتمعات وأسباب سعادتها.