أحمد مصطفى
” ربما لا نتفق كثيرا مع سياسات حزب المحافظين، ولا مع توجهات تريزا ماي تحديدا، لكن السلطة في بريطانيا تستند إلى موظفين أساسيين في دوائر الحكم والسياسيون يتغيرون مع كل انتخابات. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الحكومة الحالية في حالة تشرذم وصراعات داخلية فقد يكون ذلك أيضا مفيدا في التفاوض على أي اتفاقات شراكة بما يعظم فائدة الطرف الذي تسعى بريطانيا للاتفاق معه.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبدو من تطورات المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الخلافات التي تعصف بحزب المحافظين الحاكم والوضع الذي تجد فيه زعيمته رئيسة الوزراء تريزا ماي، أن خروج بريطانيا من الاتحاد (البركست)الذي يفترض أن يكون في الربيع المقبل لن يكون أمرا سهلا. فحتى الآن لا يوجد مؤشر على التوصل إلى اتفاق بنهاية العام ـ كما يفترض ـ حول علاقة بريطانيا بأوروبا بعد الانفصال. ولا يمكن حتى الآن تقدير نتائج الخروج بدون اتفاق، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك من بين معسكر الخروج في بريطانيا (وحتى قيادات في حزب المحافظين تنافس رئيسة الوزراء) من لا يريد لأي اتفاق أن يتم. ناهيك طبعا عن كونه اتفاق مناسب أو مجحف. وأيا كان شكل البركست، فإن بريطانيا ستكون في وضع جديد بداية العام المقبل ربما يقدر البعض أنه ليس في مصلحتها تماما لكن المؤكد أنه يفتح آفاقا جديدة لعلاقة بريطانيا بالعالم ليست ضمن الاتحاد الأوروبي.
وقبل استعراض سريع لتلك الآفاق وما يهمنا منها في منطقتنا من باب حسابات المصالح، نشير إلى أن الحديث الإعلامي والسياسي في بريطانيا وخارجها عن احتمال التراجع عن البركست أقرب للتفكير بالتمني منه للواقعية السياسية. فمنذ صوت البريطانيون قبل أكثر من عامين في استفتاء مباشر لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بدأت عجلة يصعب إيقافها، حتى لو كان المروجون للبركست خدعوا الناخبين البريطانيين بشأن ضرر البقاء في الاتحاد وفائدة الخروج منه. وما الحديث عن احتمال استفتاء آخر جديد حول البركست إلا مجرد تمني سياسي يصعب تحققه في الواقع حتى رغم أن نسبة معفولة ممن صوتوا للخروج ربما اكتشفوا أنه ليس من المصلحة الانفصال عن أوروبا. بالطبع لا يمكن استبعاد أن تؤدي خلافات النخبة السياسية البريطانية، وخاصة بين قيادات الحزب الحاكم، والفشل في التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي إلى أزمة قد تعني تغيير الحكومة أو اجراء انتخابات مبكرة لكن يظل “استفتاء ثان” على البركست الاحتمال الأقل ترجيحا.
الخلاصة أن البركست سيصبح أمرا واقعا قريبا، وقد بدأت بريطانيا بالفعل منذ فترة استكشاف امكانيات الاتفاق مع شركاء تجاريين واقتصاديين حول العالم على أساس علاقات بريطانية مع هؤلاء وليس ضمن تعاملهم مع الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الذي يتبنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب توجها جديدا في علاقة الولايات المتحدة بالشركاء حول العالم يقوم على أساس شعار “أميركا أولا” وبحسابات مصالح جديدة تجد بريطانيا نفسها أمام خيارات محدودة بحثا عن شراكة واسعة مع قوى مثل الصين والهند وجنوب افريقيا مع ما يبدو من تراجع “العلاقة الخاصة” بين لندن وواشنطن. وإذا كانت العلاقة الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة أوسع وأعمق من التجارة والاقتصاد، ولا يحتنل أن تتراجع الجوانب الأخرى في تلك العلاقة المميزة عبر الأطلنطي، إلا أن ما يهم بريطانيا أكثر الآن بعد الانفصال عن أوروبا هو الاقتصاد.
من المناطق المهمة التي سعت الحكومة البريطانية لاستكشاف أفق توسيع الشراكة معها بعد البركست، وعلى أسس وقواعد تختلف عما يحكم علاقة المنطقة مع أوروبا، المنطقة العربية وخاصة دول الخليج التي تربطها علاقات قوية منذ ما بعد الاستقلال. ورغم أن جولة تريزا ماي في المنطقة نهاية العام الماضي لم تسفر عن الكثير مما كانت تأمل رئيسة وزراء بريطانيا في تحقيقع على صعيد الشراكة مع دول المنطقة، إلا أنها كانت بمثابة خطوة أولى على طريق توضيح حسابات المصالح في العلاقة مع بريطانيا ليست عضوا في اتحاد أوروبي لم يتوصل مجلس التعاون لدول الخليج إلى اتفاق تجاري متكامل معه بعد سنوات من المفاوضات. لا تزال الفرصة متاحة لاستفادة دول المنطقة من علاقة أقوى وأوسع مع بريطانيا بعد البركست، وربما يكون الوضع الحالي مع تعقد مسألة الخروج من الاتحاد لصالح أي طرف تسعى بريطانيا للشراكة معه. صحيح أن علاقة دول المنطقة ببريطانيا قوية أصلا، إلا أن حسابات المصالح ربما تجعل من المناسب اغتنام الفرصة الحالية لتقوية تلك العلاقات مع بريطانيا.
ربما لا نتفق كثيرا مع سياسات حزب المحافظين، ولا مع توجهات تريزا ماي تحديدا، لكن السلطة في بريطانيا تستند إلى موظفين أساسيين في دوائر الحكم والسياسيون يتغيرون مع كل انتخابات. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الحكومة الحالية في حالة تشرذم وصراعات داخلية فقد يكون ذلك أيضا مفيدا في التفاوض على أي اتفاقات شراكة بما يعظم فائدة الطرف الذي تسعى بريطانيا للاتفاق معه. كما أن تلك فرصة لتعمل دول المنطقة بتوجه جديد يتبنى حسابات المصالح بشكل أساسي ليوازن بين علاقته بكتلة الاتحاد الأوروبي والاستفادة من علاقة مع عضو مهم خارج منه. ولا شك أن ذلك في ذهن كثير من المسؤولين في دول المنطقة، إنما الأمر بحاجة لقدر من الإرادة السياسية لاغتنام فرصة قد تعزز من مصالحنا على المدى البعيد وليس بشكل آني فقط. وإذا كانت لندن تنظر مثلا لدول الخليج على أتها مصدر للأموال فحسب، خاصة وأن حي المال والأعمال (سيتي أوف لندن) فيها سيكون الأكثر تضررا من البركست فإن دول الخليج وغيرها من الدول العربية يمكنها التفاوض على شراكة تحقق مصالحها بقاعدة تبادل المنفعة وليس استفادة طرف بقدر أكبر من الآخر.