بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على الانخراط العسكري للولايات المتحدة في العراق، تبددت منذ فترة طويلة مشاعر المثالية التي ميّزت التدخل الأمريكي المبدئي في البلاد. فبدلاً من الحلم بالتوسط في بناء ديمقراطية نموذجية في بغداد، أصبحت أهداف واشنطن في العراق أكثر تواضعاً وواقعيةً، واقتصرت على منع معاودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى جانب موازنة القوة الإيرانية.
ومن المثير للتهكّم أنه حتى مع ابتعاد مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية عن اتباع النهج القائم على القيم تجاه الشرق الأوسط، تقف الديمقراطية العراقية اليوم على وشك تحقيق انطلاقة جديدة.
ففي الأسبوع الرابع من تشرين الأول/أكتوبر، أقرّ البرلمان العراقي حكومةً جديدة يهيمن عليها التكنوقراطيين برئاسة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي هو خبير اقتصادي حصل على تدريبه في جامعة السوربون. ويفيض سجل وزرائه بالشهادات الجامعية العليا والخبرات المهنية. ومع اقتران هذه الحكومة باختيار برهم صالح رئيساً للجمهورية العراقية ومحمد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب، يعني ذلك أن هذه التشكيلة الثلاثية من القادة [السياسيين] التي ظهرت عقب انتخابات هذا العام مرتبطة بصورة وثيقة بولادة حكومة غير طائفية وعملية.
وتعكس السياسة العراقية من خلال هذا التحوّل مطالبةً واضحةً بالتغيير من قِبل الناخبين. وعلى الرغم من النجاح العسكري الذي حققته الحكومة السابقة في قيادة الحملة العسكرية الناجحة التي أدت إلى هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للعراقيين الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع في أيار/مايو كان الغضب من الفساد المستشري والخدمات العامة السيئة.
إن شعور العراقيين بالظلم له ما يبرره تماماً. فعلى الرغم من تحقيق العراق أكثر من 700 مليار دولار أمريكي في عائدات النفط منذ عام 2005، تُعد البلاد من أسوأ الأماكن للعيش في العالم. فعلى سبيل المثال، تعاني البصرة، التي هي في قلب إنتاج النفط العراقي، من نقص في المياه الصالحة للشرب وفي كمية الكهرباء الكافية، مما يجعل من غير المستطاع تحمّل السكن في هذه المدينة في فصول الصيف الحارقة. لذا أصبحت الاحتجاجات العامة حدثاً روتينياً.
إن شعور العراقيين بالسأم من حكومتهم ليس بالأمر الجديد. لكن ما هو مختلف بشكل لافت في الوقت الحالي هو مدى استجابة عملية تشكيل الحكومة إلى الإشارات القادمة من الشارع. فخلافاً لما مضى، عندما كان يتم تشكيل الحكومات من خلال عقد صفقات من وراء الكواليس بين قادة الكتل السياسية، فإن الفضل بولادة الثلاثية [السياسية] الحالية يعود إلى استعداد المشرّعين الأفراد لتحدي زعماء الأحزاب والتصويت بشكل مستقل.
ويبقى السؤال حالياً ما إذا كان بإمكان هذا الفريق الجديد أن ينجح في دفع أجندة الإصلاح إلى الأمام، حيث أنّ التحديات التي تنتظرهم هائلة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مشاكل الحوكمة العراقية عميقة الجذور، إذ أصبحت مترسّخة في المؤسسات والشخصيات على حد سواء. فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، أوْلت الحكومات المتعاقبة الأولوية للتمثيل العرقي والطائفي بدلاً من الحُكم الرشيد. وفي كل مرة، أثبتت الحكومة أنها ليست حكومة أحد. وفي ظل الإفلات المستمر من المساءلة، قام كل حزب سياسي بإدارة الوزارات التي نالها كإقطاعيات سياسية، وليس كمؤسسات للخدمات العامة. ولا تزال الميليشيات الطائفية تمارس نفوذاً كبيراً.
ويعتمد تَوْق الشعب العراقي إلى حكم أفضل وأكثر فاعلية على نجاح هذه الحكومة التي يجب أن تستلم زمام أجندة الإصلاح. إلا أن دعم الولايات المتحدة مهم أيضاً. يتعين على واشنطن أن توضّح أنها تعمل على مواءمة أهدافها مع أهداف الشعب العراقي في مطالباته بحكومة أكثر نظافة وقابلية للمساءلة. فوجود الأشخاص الذين يستحقون السلطة لا يكفي؛ ومن الأمور الحيوية أيضاً إصلاح الاقتصاد العراقي وتحسين الخدمات والوضع الأمني في البلاد. وفي الوقت الذي يتحوّل فيه تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى جماعة متمرّدة، تبقى المساعدات الأمنية الأمريكية (وخاصة تدريب القوات العراقية) أمراً أساسياً. حتى أن المساعدة في القضايا الدنيوية مثل إمدادات الماء والكهرباء قد تحمل تأثيرات جوهرية. يجب على واشنطن أيضاً دعم العراق في حربه ضد الفساد من خلال توفير تكنولوجيا المعلومات اللازمة لتعزيز شفافية عائدات النفط ومالية الحكومة. وتبقى العلاقة بين بغداد و «إقليم كردستان العراق» متوترةً، ولكن هذه إحدى المجالات التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بمكانة مثالية للاضطلاع بدور الوسيط النزيه. ويترتب عن كافة هذه التدابير استثمارات متواضعة قد توفر عائدات عالية.
ويشكّل هذا الدعم الموجّه أيضاً الوسيلة الأكثر فعاليةً للحد من النفوذ الإيراني الشنيع، الذي يستغل ضعف سيادة القانون والمؤسسات من أجل تعظيم مكانة إيران كحكَمٍ قوي (ومنفّذ متنمر) في السياسة العراقية القائمة بشكلٍ كبير على العلاقات الشخصية والتبادلات. وخلافاً للولايات المتحدة، لا تملك إيران الكثير لتقدّمه للعراقيين، إذ لا يمكنها أن توفّر نموذجاً سياسياً أو اقتصادياً، ولا حتى احتمال تحسين الخدمات أو الوظائف أو الإصلاح. يتعيّن على واشنطن اغتنام هذه الفرصة وتجديد سياستها في العراق وفقاً لذلك.