فوزي رمضان
صحفي مصري
زيادة أسعار الوقود كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة عندما قرر ماكرون تعديل نظام دفع الضرائب، ورفع أسعار الديزل والبنزين، لتشجيع الناس على الانتقال لوسائل أكثر ملاءمة للبيئة، وقد فرضت تلك الضرائب لمساعدة الفرنسيين على التحول لشراء سيارات أقل تلويثا للبيئة، مع تعويض المحتاجين لمبالغ كبيرة في التنقل..
ما أشبه الليلة بالبارحة ونفس المشهد يتكرر؛ طوابير ممتدة لأكثر من كيلومتر، اصطفت مئات الشاحنات، أغلقت كافة مداخل باريس، أكوام من المتاريس وإطارات السيارات، حاصرت بشكل كامل عشرات من مصافي النفط ومحطات تعبئة الوقود ومراكز التسوق، آلاف المحتجين في حصار مستحكم حول قناة “فرنسا 24″، انتظارا لما يسفر عنه لقاء إدوارد فيليب رئيس وزراء فرنسا حول الأزمة، خيبة أمل كبرى تصيب الجميع. فقد أعلن الرجل على الهواء مباشرة (نحن نتفهم الوضع، لكن ليس مجرد احتجاجات تغير مسارنا).
وبنفس الوتيرة يعلن 35 ألفا على موقع الفيسبوك استعدادهم للمشاركة في أكبر تجمع بساحة الكونكورد باريس، إلى جانب أنصار السترات الصفراء، والتي هي لا حزب سياسي ولا اجتماعي، لكنها مجرد حركة احتجاج تشكل وتعبر عن مطالب معظم قائدي السيارات، والذين ارتدوا ستراتهم الصفراء التي يحتم قانون المرور الفرنسي حملها في سياراتهم، ولربما كانوا متأثرين أيضا برئيسة حزب المسيرة الوطنية مارين لوبان الخاسرة للانتخابات الرئاسية الماضية أمام ماكرون، والمناهضة لبرامجه الإصلاحية.
280 ألف متظاهر حتى الآن في أكثر من 2000 موقع في شتى أنحاء فرنسا، يزحفون نحو قصر الإليزيه وساحة الشانزليزيه، وكالعادة تعلن الطوارئ، وينتشر أكثر من 3 آلاف من قوات الأمن حول مواقع التجمهر والاحتجاج لمنع تقدم الجماهير الغاضبة نحو الأماكن الحساسة في الدولة، والحيلولة دون وقوع أحداث عنيفة، ومع استخدام خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع والعنف المفرط يسقط قتيلان وأكثر من 600 جريح في أعنف موجهات تشهدها العاصمة باريس في الآونة الأخيرة.
زيادة أسعار الوقود كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة عندما قرر ماكرون تعديل نظام دفع الضرائب، ورفع أسعار الديزل والبنزين، لتشجيع الناس على الانتقال لوسائل أكثر ملاءمة للبيئة، وقد فرضت تلك الضرائب لمساعدة الفرنسيين على التحول لشراء سيارات أقل تلويثا للبيئة، مع تعويض المحتاجين لمبالغ كبيرة في التنقل، ودعم المستخدمين للوقود في التدفئة، فأراد ماكرون بذلك منح الحافز والتشجيع على شراء السيارات الكهربائية أو الصديقة للبيئة.
الحكومة الفرنسية ترغب من تلك الإجراءات ليس خفض فاتورة الدعم، أو تعديل ميزان المدفوعات، أو البحث عن مصارف جديدة لميزانية الدولة، بل تحسين السبل للوصول إلى بيئة نظيفة خالية من التلوث الناتج عن الوقود الأحفوري المتمثل في النفط، رغم ذلك أعلن المحتجون مواصلة المظاهرات، رافعين شعار “الربيع العربي” الشهير (الشعب يريد إسقاط النظام)، وليسقط ماكرون وتسقط الشرطة، في إصرار تام على إجبار الحكومة الرضوخ لمطالبهم، وإلغاء الضرائب التي تكبل معظم الأسر، نظرا لارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية لمعظم الفرنسيين.
قد يسقط ماكرون فعلا صريعا لسياسته الداخلية، التي تبغي الانتقال البيئي وتعديل سلوك الفرنسيين الراديكالي، والتمسك ببرنامجه الإصلاحي، وربما تحاك ضده المكائد، نظرا لسياسته الخارجية التي قد تبدو تحديا للقطب الأوحد في العالم. فأما بالنسبة لسياسته الداخلية ـ وكما أكدت صحيفة لو فيجارو ـ فإن فرنسا لم تعرف في تاريخها رئيسا يفقد شعبيته بهذه الوتيرة المتسارعة مثل الرئيس الحالي. لقد توقف الفرنسيون عن حب ماكرون بعد أن قاد حملة انتخابية مذهلة، أصبح الآن تحت النيران بسبب برنامج الإصلاح الاجتماعي، الذي لم يعجب معظم شرائح المجتمع الفرنسي، فقد قرر إرجاء إلغاء الضريبة المقررة على السكن، ورفع الدعم الذي كان يقدم للمناطق الفقيرة، بخلاف تغيير قانون العمل، دون الرجوع إلى نقاش برلماني أو حوار مع النقابات، وكان الصدام الأكبر مع المؤسسة العسكرية عندما قرر خفض ميزانية وزارة الدفاع 850 مليون يورو، رغم تحفظات كبار القادة على هذا الإجراء، ورغم حالة الطوارئ المعلنة لمواجهة الإرهاب.
أما التحدي الخارجي فقد اشتعل مجددا عندما أعلن ماكرون اقتراحه إنشاء جيش خاص لحماية أوروبا من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحددة الأميركية، معلنا أن أوروبا بحاجة إلى الحد من اعتمادها على القوة الأميركية، ليصف الرئيس الأميركي ترامب اقتراحه بالأمر المهين، وفي أكثر من تغريدة له على موقع تويتر يقول (إيمانويل ماكرون يقترح إنشاء جيش خاص لحماية أوروبا من الولايات المتحدة والصين وروسيا، إيمانويل يعاني من شعبية ضعيفة جدا).
غالبا العالم يحسب للاحتجاجات الفرنسية ألف حساب، فقد كانت الإضرابات الاجتماعية والسياسية والنظام الضريبي غير العادل المفجر للثورة الفرنسية عام1789، بكل تأثيراتها العميقة على أوروبا والعالم الغربي، ومنذ اقتحام سجن الباستيل الذي يمثل رمز السلطة الحاكمة وسط باريس والذي بسقوطه اندلعت شرارة الثورة الفرنسية التي غيرت وبعمق مسار التاريخ الحديث.
وما زالت ساحة الكونكورد بباريس تعج بالآلاف من المحتجين من أنصار السترات الصفراء، ومعهم 72% من الشعب الفرنسي مؤيدون لهم، وما زالت أعمال الشغب تلف باريس وألسنة الحرائق تشعل الشانزليزيه، والرئيس ماكرون لم يغير موقفه، ومتمسك مع حكومته ببرنامج الإصلاح الاجتماعي، لكن قوات الأمن تخشى تسلل متطرفين من أقصى اليسار واليمين إلى المظاهرات، هنا قد يصعب السيطرة على الجماهير، ولا مناص هنا سوى الحوار، إلا إذا تكالب على ماكرون معارضوه، الذين أشعلوا له النيران بجوار البنزين الذي رفع أسعاره على المواطن الفرنسي.. إنه فعلا على المحك.