ابراهيم العريس
المتفرج – أو القارئ – غير المهتم عادة بالجانب السياسي المضمر، أو المكشوف، في مسرح كورناي، قد تأخذه الدهشة أمام واحد من أشهر أفلام الثنائي السينمائي الألماني/ الفرنسي جان ماري ستروب – دانيال هوييّيه، وهو ذاك الذي حققاه في عام 1969 وبدا في حينه بالغ الغرابة يحتاج الى كثير من التفسيرات والتعليقات قبل أن يُفهم تماماً، فالفيلم، وهو «أوثون» المأخوذ عن واحدة من مسرحيات كورناي التي كتبها في مرحلته المسماة «سن النضج» والتي كانت من أكثر المراحل نزوعاً الى «التحليل» السياسي في المسرح الكلاسيكي الفرنسي، قُدّمت في الفيلم المذكور بملابس و «حبكة» رومانية كما يقتضي الأمر، ولكن على خلفية ديكورات معاصرة حيث تلوح الأبنية الحديثة وشرائط الكهرباء ومرور السيارات في خلفية أحداث وحوارات تشير الى أننا في العصر الروماني، ناهيك بأن السينمائيين اشتغلا على حوارات ممتزجة بأصوات مرور السيارات والشاحنات وزقزقة العصافير في الفيلم الذي أعطياه عنواناً ثانوياً هو «لا يمكن للعيون أن تبقى مغلقة طوال الوقت»، وهو عنوان رأى فيه كثر نوعاً من الشعار السياسي التحريضي ضمن «همروجة» شعارات أيار الفرنسي. بيد أننا لن نتوقف هنا طويلاً عند هذه الإشارات بالنظر الى أن موضوعنا هو بالتحديد مسرحية كورناي، تلك التراجيديا التي كتبت في عام 1664 لتقدّم للمرة الأولى في آب (أغسطس) من العام نفسه في فونتانبيلو.
> كما يعرف كثر من متابعي المسرح الكلاسيكي الفرنسي، تتحدث مسرحية «أوثون» عن استيلاء القائد حامل هذا الاسم على الحكم ووصوله الى السلطة الإمبراطورية بعد انقلابه على الإمبراطور السابق غالبا الذي لم يعمر في الحكم طويلاً على أية حال. بل كان حين الانقلاب عليه، يحاول أن يختار من يتولى السلطة مكانه. والحقيقة أن «أوثون» تعتبر واحدة من أكثر مسرحيات كورناي تسيّساً. ومن الواضح في هذا السياق أن واحداً من الأسباب التي دفعته الى كتابتها ما كان يقال عادة في مجال المقارنة بينه وبين «منافسه» الرئيسي في الكتابة المسرحية الكلاسيكية الفرنسية، جان راسين، من أنه هو كان فائق الاهتمام بحكايات البطولة الخارقة فيما اهتم راسين أكثر منه بالحبكات السياسية وبالبشر الحقيقيين مصوّراً نوازعهم وأهواءهم. وهو قول كان يعني بصورة مضمرة تهرّباً من كورناي في مجابهة الواقع، وبعده السياسي تحديداً مقابل غوص راسين في الواقع والسياسة. وكأن كورناي أراد أن يقول من خلال «أوثون» قدرته السياسية جنباً الى جنب مع أعمال له أخرى كتبها خلال العقد السابع من القرن السابع عشر في وقت كان فيه تجاوز الخمسين من عمره، بدءاً من «أوديب» وصولاً الى «سرتوريوس» و «آجيليساس» و «آتيلا» وغيرها من مسرحيات تلك المرحلة «السياسية» التي أشرنا إليها والتي تحتل فيها مسرحية «أوثون» مركز الصدارة. فعمّاذا تحكي المسرحية من خلال حكاية انقلاب أوثون على غالبا؟
> تعود بنا «أوثون» الى روما القديمة لتضعنا في قلب المؤامرات والمناورات وصراعات البلاط التي تدور من حول شخصيات عديدة من أهل الحكم وهم يتنافسون، سرّاً أو علناً، على الترشّح لمنصب ولي العهد الذي سيتعين أن يختاره الإمبراطور المسن غالبا الذي بقي من دون ذرية ويعود اليه وحده أمر تعيين الإمبراطور المقبل. ومن بين المرشحين هناك أوثون القائد الذي كان قد سبق له أن أُغرم بالحسناء بلوتينا ابنة القنصل (المستشار) فينيوس، ويتطلع الى الاقتران بها ما إن يتخّذ الأمبراطور قراره وتستقر الأمور. ولكن حين يطول تردّد هذا الأخير ويبدأ الصراع بالاحتدام، لا يكون من بلوتينا وأبيها إلا أن ينصحا أوثون بأن يتقدم الى كاميللا، ابنة أخ غالبا خطيباً، فهو بهذا سوف يكون صهراً للإمبراطور وذا الحظوة الأكبر لديه. وبالتالي سوف يضمن العرش ما من شأنه أن يكون في مصلحتهم جميعاً. وبالفعل سوف يقتنع أوثون بسلوك ذلك السبيل ويتقدم خطيباً الى غالبا. صحيح أن هذا يوافق مسروراً لكنه، في المقابل، يختار بيزو، منافس أوثون الرئيسي على الخلافة، ليكون إمبراطوراً من بعده. وهنا، وكما يمكننا أن نتوقع، يجن جنون بطلنا، وإذ يكون في غمرة حيرته متسائلاً ما العمل الآن، يقول له فينيوس أن عليه أن يقدم على خطوة انقلابية مؤكداً له أن الشعب يدعمه تماماً. وبالفعل يقوم أوثون بانقلابه وينصب فخاً للإمبراطور العجوز… لكن الفخ يتحول الى صراع دموي يُقتل خلاله كل من غالبا وفينيوس. وإذ تتوجه الأنظار، ولا سيما أنظار بلوتينا، الى أوثون على اعتبار أنه هو المسؤول عن مقتل فينيوس إضافة الى قتله غالبا، يظهر أوثون ليقنع حبيبته ببراءته معلناً أنه فاز بالفعل بمنصب الإمبراطور، مؤكداً أنهما بعد فترة الحداد الضرورية وبعد إجراءات تسلّمه العرش، سوف يقيمان حفل زواج إمبراطورياً كبيراً. وعلى هذا تنتهي هذه المسرحية التي تعتبر من أكثر أعمال كورناي تسيّساً.
> على رغم الطابع السياسي، بل حتى الأخلاقي الواضح للمسرحية، كان غريباً أن يقول كورناي في تقديمه لها أنه «نادراً ما عرف المسرح عملاً يحتوي على كل هذا القدر من عروض الزواج لينتهي الأمر بعقد زواج واحد في المسرحية لا أكثر». والحقيقة أن النقاد كثيراً ما تعاملوا بحيرة مع هذا التأكيد الذي قد يبدو أنه لا يعني شيئاً، مقارنة بعناصر أخرى في «أوثون» تحدث عنها النقاد والمؤرخون مطولاً، ومن بينهم الشاعر والكاتب الألماني شيلر، الذي كان في مقارنته بين مسرح راسين ومسرح منافسه كورناي يفضل الأول لإنسانية حواراته، مقابل ذلك الطابع «البطولي المجاني» الذي يسيطر على حوارات كورناي. فشيلر، لم يتوان عن أن يقول بصدد «أوثون» ما معناه انه صحيح أن الحوارات العائدة الى مختلف الشخصيات الذكورية فيها تبدو مغلفة بنفس النزعة «البطولية» المعتادة لدى هذا المؤلف، بيد أنها تطلع «هذه المرة مجرد غطاء لأردا أنواع النفاق السياسي والدناءة التي لا تنجو منها أي من الشخصيات».
وكأن شيلر يريد أن يقول لنا هنا أن كورناي قد يكون حافظ على أسلوبه التفخيمي في رسم حواراته إنما لكي يجعل هذه الحوارات، في مضمونها على الأقل، مرآة تعكس النفس البشرية على حقيقتها. كاشفة عن مقدار الحقارة التي تسم لعبة الصراع على العرش، وبالتالي على أي موقع سلطوي كان.
> ومن الواضح بالنسبة إلينا هنا مقدار ما حقق كورناي هدفه في لعبة التنافس بينه وبين منافسه الأول، وهو نجاح، لئن كان معاصروه قد ضنوا عليه بالاعتراف به، فإنه لمن الأمور ذات الدلالة أنه أتى بعد عقود طويلة لدى شيلر الذي يمكن القول أنه لم يكن أبداً من كبار المعجبين بمسرح كورناي الذي كان يقول عنه أنه «يفتقر الى القدرة على الابتكار، وأن مسرحياته تبدو في معظم الأحيان خالية من المعنى وحواراته جافة، ناهيك بإخفاقه المتواصل في التعامل مع الشخصيات حتى وإن كان ينطلق بقوة في رسمها أول الأمر، قبل أن يقع في أفخاخ سرعان ما تبعده عن مراميه الأولى في هذا المجال. هذا ناهيك ببرودة العواطف والأهواء لديه». وكان عدد كبير من النقاد الفرنسيين يشاطرون شيلر موقفه هذا ولا سيما حين يجرون بدورهم نوعاً من مقارنة بينه وبين راسين ترجّح هذا الأخير. ولكنّ النقاد الفرنسيين وشيلر، لم يجدوا أن «أوثون»، وما تلاها من مسرحيات لكورناي، تنطبق عليها هذه المواصفات حتى وإن لم يكن أي منهم قد وصل الى إعلان تفوق كورناي على راسين. جلّ ما في الأمر انه بات يبدو الآن أكثر دنوّاً منه.
> مهما يكن من أمر، من المؤكد أن بيار كورناي (1606 – 1684) لم يكن عليه أن يأبه كثيراً بمثل تلك المقارنة، فهو منذ خاض الكتابة المسرحية في تلك الحقبة الذهبية من عمر المسرح الكلاسيكي الفرنسي التي كانها القرن السابع عشر، عرف كيف يراكم عدداً لا بأس به من مسرحيات بلغ نحو أربعة وثلاثين مسرحية في فترة وصلت الى عدد من السنوات يصل الى ثلث قرن. ذلك انه فيما قُدّمت مسرحيته الأولى (ميليت) في عام 1630 كان التقديم الأول لمسرحيته الأخيرة «سوريناس» في العام 1674 قبل عشر سنوات من رحيله هو الذي تقول سيرة حياته أنه أمضى آخر عقد من حياته مريضاً ومعوزاً ما حطمه ومنعه من أن يواصل الكتابة فلم يدبج سوى قصيدة واحدة طوال سنوات عديدة وجهها الى الملك لويس الرابع عشر مذكراً فيها بأمجاده ومكانته، وبأنه لا يزال على قيد الحياة.