علي عقلة عرسان
عجبت لكائنات ذوات حيوات وقدرات وطاقات ومَلَكات، تعيش حالات طفيلية، وتلغي إرادتها وقدراتها على أن تسعى، وأن تكسب قُوتَها، وأن تعيش استقلالية تشعرها بحُرية.. وعجبت لكائنات تملك ذاتها وحريتها وقدراتها، وتجعل همّها في الحياة أن تسلب كائنات أخرى، الاستقلال والقدرة والإرادة والحرية، وتضيِّق عليها العيش، وتحاصرها، لتحرمها من ذاتها ومَلَكاتها، ومن طاقاتها وحريتها وإرادتها، ومن ثم تضطرها لأن تعيش في حالة أدنى من حالة طفيلية..
في آخر الخريف، تَنتُفُ الريحُ ملابس الأشجار العِملاقة والقَزْمة.. شجرتُنا العملاقة غزتها رياح الخريف، وها هي تَهتز، وترتجف أغصانها، وتتطاير أوراقها، وتتعرَّى شيئا فشيئا، لكنها تبقى واقفة وشامخة، كأنما تتحدَّى رياح الخريف. العُصفور الأخضر والورقة الصّفراء، كانا على الشجرة العملاقة ذاتها، يتفيأ العُصفور الورقة، يوشوشها، يقاربها بمنقاره كأنما يناغشها، وينظف وجهها حين تحطُّ عليه الحشرات، ويراعيها كأنما يتعشَّقها.. حين هبت عليهما رياح الخريف.. تسابق العُصفور والورقة للصمود في وجه دوامة الريح.. هي اقتُطِعت من عنقها، ركضت، تطوَّحت ثم ترنَّحت.. وهو ثبت قليلا فوق الغصن المتراقص، ثم انطلق يلاحق الورقة ويجاريها ويتماوج معها، كأنما يحاول إنقاذها لكنه لا يستطيع. الورقة الصفراء هوَت، وها هي تفتَرِش الأرض، وتنظر إلى أمها الشجرة باستجداء وحسرة وحنين.. لا يوجد عون من أي نوع، تيأس، تذوي، ثم تذبل وتتلطخ بالوحل، وتدوسها الأحذية، وتصبح وسخ الدروب، أو اللاشيء.. حين رآها العصفور تفترش الأرض ولا تقوى على الحركة، اقترب منها فرآها جثة.. ارتفع في الفضاء وحلِّق عاليا، دار عدة دورات، ثم حطَّ على أعلى غصنٍ في الشجرة العملاقة التي كانا عليها، وأخذ يتأمل الشجرة والورقة من فوق.. إنه لا يهدأ، يحرك رأسه وعنقه، وينفش ريشه، وينقر تحت جناحيه، يقفز قفزة قصيرة، ينقر غصنا بمنقاره، يطير ويحوم حول جثة الورقة ثم يعود إلى الشجرة، ويستمر قَلقا.. لا نعرف ما الذي كان يجول في رأسه الصغير، ربما أحسَّ بالفَقْد، وربما فكَّر بذاته وبمصيره، وربما.. وربما.. ترى بماذا يفكِّر وماذا يقول وهو في وضعه ذاك؟! أتوقَّعُ، أُخَمِّنُ.. لكن لا يوجد عندي ما يشفي الغُلَّة، فذاك عالمٌ مغلق، وأنا أجهل لغة الطير.. وأقطع بأن الصوفي “فريد الدين العطار” الذي كتب عن منطق الطير، لا يعرف ماذا يدور في رأس عصفور فارقته رفيقتُه الورقه، في مهب رياح الخريف؟
أقدِّرُ أن الكائنات الحية لا تحب السقوط، وهي حية بذاتها أو حية بغيرها.. الورقة كانت حية عندما كانت على غصن الشجرة، وظلت تمتص نسغ الحياة من أمها الشجرة قدر استطاعتها، وبقيت حية ما دامت هناك، حتى وهي صفراء عليلة، كانت تمتص النَّسَغ، وربما تأمل باستعادة القوة وبالبقاء حَيَّة… أمَّا العصفور فكان حيا بذاته، يعيش لذاته، ويبحث عن قوته، ويركض في الفضاء بإرادته، ويعود إلى عشه في الشجرة بإرادته.. الريشة في جسمه تشبه الورقة على غصن الشجرة، تستمد حياتها منه، وعندما تنفصل عن جسده لا يستطيع استعادتها، ولا يملك لها إنقاذا.. وهي لا تقوى على العودة، إنها تهوي ميتة.. وتغدو مثل الورقة الصفراء المُنْحَتَّةِ عن الشجرة، بعضَ وسخ الأرض.
دروس الحياة لا نهاية لها.. ومنها أن الكينونة الطُّفَيْليَّة لا تملك ذاتها، والكائن الطُّفيلي لا يملك إرادة ولا يتمتع بحق تقرير المصير.. إنه يعيش على الآخرين، يلتصق على أجسادهم، ويستمد نسغ حياته منهم، وحين يُنبَذُ منهم أو ينفصل عنهم لسبب ما، يسقط، ويأخذ بالذبول، ويصبح بعضَ وسخ الأرض.. إنه كذلك ربما لأنه لم يعتد على أن يعيش بذاته ولذاته ومن قدراته، باستقلالية تشعره بإرادته، وبعزمه على المغالبة في ميادين الحياة، وعلى الركض في أرجاء الأرض، وحتى على التطوُّح في الفضاء الرحب بَحثا عن مكانة في الوجود، وكسبا لمقومات العيش، ونُشدانا لحياة فيها المتعة والرضا، وممارسة السعي الإرادي، وإنماء الذات وبيئة الحياة.. إنه الطفيلي الذي يمتص نسغ حياة الآخرين، ولا يستطيع أن يعود إلى ذاته ويتأمل ما حوله، مثلما يفعل عصفور يعود إلى مستقر آمن، يراه كذلك من منظور قد لا يبتعد كثيرا عن مدى منقاره؟!
عجبت لكائنات ذوات حيوات وقدرات وطاقات ومَلَكات، تعيش حالات طفيلية، وتلغي إرادتها وقدراتها على أن تسعى، وأن تكسب قُوتَها، وأن تعيش استقلالية تشعرها بحُرية.. وعجبت لكائنات تملك ذاتها وحريتها وقدراتها، وتجعل همّها في الحياة أن تسلب كائنات أخرى، الاستقلال والقدرة والإرادة والحرية، وتضيِّق عليها العيش، وتحاصرها، لتحرمها من ذاتها ومَلَكاتها، ومن طاقاتها وحريتها وإرادتها، ومن ثم تضطرها لأن تعيش في حالة أدنى من حالة طفيلية.. وأعجبتُ بكائنات تعيش استقلاليتها بتكلفة باهظة، تكتوي بنار الواقع، وتصبر على البؤس، وتصر على التعلق بما تراه القيمة والمكانة والكرامة، وتتابع جرَّ المحراث، والنيرُ على العنق، من دون أن تستسلم، وتنتظر فرَج الله الآتي..
إنها الحياة، قيمتها ومقوماتها، الطبيعة، قوانينها وقواعدها.. أتُراها المُغالَبَة حتى الموت، أهم قوانين الحياة وقواعدها؟! تلك المغالبة التي تملك ديمومة وتصاعدا وقسوة لا ترحم، وترتقي صراعا داميا، وافتراسا، وتستمر حركة حتى في حالة السكون الظاهر، حركة “الجُوَّانيِّ” الذي يرسم “البَرَّانيَّ” بصمت.. تلك الحالة التي ما هي فيها “الجُنيد بن محمد”، حاله بحال الجبال، تلك المخالف ظاهرها السكن لواقعها المتحرك، حركة الأرض، مستذكرا حكم الآية الكريمة من سورة النَّمل: “﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴿٨٨﴾.. تلك المُغالبة/الصراع.. التي لا يسلم أحدٌ من هُبوب رياحها العاتية، واشتداد عواصفها وأعاصيرها، وهي تزري بالأحوال وراحة البال، وتَهوي بالكثير الكثير من العِمران والأبدان والأرواح، وتقيم الشاهد في كل وقت تناقضات الإنسان، وتحكم بأنه يؤول إلى الضعف في نهاية المَطاف، مهما اشتد ساعده، وتطوَّر عقله، وازداد علمه، وتقدَّم فعله وإتقانه وإبداعه.. ومن ثم فإن عليه أن يعيش حياة، هي بتبسيط شديد: “إمَّا ورقة تصفرُّ وتنفصل عن الشجرة الأم، فتذبل وتذوي وتدوسها الأحذية.. وإمَّا عُصفورا بألوان قوس قُزَح، يموج في الفضاء الرَّحب مثل شعاع يخترق موشورا زجاجيا يرينا غنى ألوانه.. يزدهي تحت نور الشمس، ويتفيأ أحسن الظلال، ويعانق الأكمام النَّديَّة والزهر الخَضِل، ويستقر على أي غصن شاء، متى شاء.. لكنه، سواء أدرك أم لم يُدرك، ينتظر نهايته المحتومة، ومصيره المقرَّر، ويغدو مثل الورقة الصفراء التي تهوي عن الشجرة، وتصبح من وسخ الأرض.. إذ لكل حي نهاية ومصير. مهما طال به العمر، ومهما اشتدَّ ساعده، ومهما صَلُبَت إرادتُه.. ومهما تكبَّرَ وتجَبَّر، فذاك شأن الأحياء، ورأس القوانين التي تحكم الحياة.. ورحم الله شاعرنا العربي، كعبُ بن زهير بن أبي سُلمى الذي قال:
كل ابن أنثى، وإن طالتْ سلامتُه يوما على آلةٍ حَدباء مَحْمولُ
ليس عندي جواب يشفي الغُلَّة، على سؤال يكاد يكون العِلَّة، وأهم سبب من أسباب الشقاء. لأولئك الذين يعيشون قلقا وجوديا مرهقا في الحياة، وخوفا دائما من الموت.. لكني أجدني في كثير من الأوقات أقارب وضع حيٍّ من بين الأحياء، وضعَ الإنسان من بين الكائنات الحيَّة.. من زاوية أنظر أخرى قد تكون حادة جدا، ولا أمل في أن تتدرَّج لتصبح زاوية مُنفرِجة.. وهي نتيجة حياة مَحْكومة بضعف يتدرَّج، وبمصير محتومٍ لا يتغير ولا يرحم، وبظروف عيش هي الانتظار القهار، على مدى مسارات الليل والنهار، أو هي.. أو هي.. أو هي.. والله وحده العالم بالأسرار.
وتلك الحالة التي أقاربها صَوغا لتأمل، أو ارتكاسا لتأميل.. أقدمها بصيغة قد تكون قاسية الوقع على النفس، لكن مذاق الحقيقة وطعمها لا يكون له دائما مَذاق الشهدِ وطعمه.. وآمل ألا تكون حالة ترسِّخُ سلبيا ما، بل محرضا على التبصُّر والتدبُّر ومحاولة الفكاك من الأسر، أسر العبد للعبد، في أرض البشر..
وهي حالة أراها حالة إنسان يشعر بذاته، ويحاول أن يكون ذاته، يرفرف بجناحيه ولا يطير، ليس هو العُصفور ولا الورقة على شجرة.. بل هو إنسان أدرك ويدرك، أو أجبِر على أن يدرك، “أنه رَهينَة”، ويتلقى أوامر “مصيرية”.
* * *
اجلِسْ على شَطِّ الحياة وتفرَّج.. انظر ماذا ستصيد من بحرها الزاخر وأنت صَافنٌ على ذلك الشطِّ، شبه ذاهلٍ عن ذاتك؟! إنَّ عليك أن تنتظر، وقد يطول انتظارُك لمجهول تحسبه معلوما، وقد يسفر ذلك عن قلَقٍ ورَهَقٍ وقنوط.. لكن ما باليد حيلَة، إذ ما الذي تستطيع أن تفعَلَه وأنت محكوم بالانتظار؟!.. قل لا تتردَّد، لا تخَف ولا تتكلَّف قولا ليس هو القول، كن مع نفسك. تَنهض؟.. إلى أين؟! لا تنهضْ.. لا.. ليس لك الحق في أن تذهب إلى أي مكان، إذ المكان نفس المكان.. إنَّ لك أن تجلس على الشط وتتفرَّج وتنتظر.. حين تجوع تَلوكُ الرِّمال، وحين تعطش تَستاف الرِّيح، وحين تَعرى تَلبَس الغَيم، وحين تَبرد تتدثَّر بالوَهم، وحين تضيق بما أنت فيه وما أنت عليه، تتسلَّى بالذكريات والتوهم.. عِشْ وهمَ الحنين الدافئ، والأمل الضائع، والفرَج القريب.. تلك تسليات من حقك أن تمارسها، ومن حقك أن تنقشها على الرمل، وحتى أن تكتب على الماء. إذا اتسخت يداك، اسكُب من دمع عينيك على يديك لتغسل كفيك بماء غير ماء البحر، إذ عليك أن تغتسل من ماء البحر. الصقيع من حولك لن يساعدك على نظافة، والماء العذب، إن أنت حاولت غرفه من بحر الحياة، تَسرَّب من بين أصابعك.. فلا مَاء.. لا ماء يروي الظمأ.
اجلس على شَطِّ الحياة وتأمَّل، انظر في الكون وفكِّر بالزَّمن.. عُد إلى الوراء، إلى الأزل إن استطعت، واذهب على جناح الخيال إلى الأبد إن استطعت أيضا.. لكن لا تحاول أن تغادر مكانك، فذاك ممنوع عليك، ولن تستطيعه إن أنت حاولت، فهناك حُرَّاسٌ وأغلالٌ وقيود وسدود.. أنت رهين هنا، رَهين الوقت، والمكان، ورَهين دهاة الناس من إنسٍ وجان.. أنت رَهين الزمن، رَهين العيش، رهين القوة، رَهين الموت. لم يحن وقت موتك، لقد ذهب الموتُ في مهمة وسيعود.. سيعود.. لا تخف، لا تخف.. ليس هو من يدوِّم في الفضاء من حولك مثل الأعاصير الهوجاء في المُحيطات.. فتلك ألاعيبها تلك ألاعيب صِبية، إذا ما قيست بأعاصير الزَّمان.. عواصفُ الزمن وأعاصيره أشد بكثير من عواصف المحيطات، ومِن شُعَبِ أعاصير الزَّمن الموت.. فاهدأ.. ما مِن جَدوى، لا.. ما مِن جدوى على الإطلاق، لا ترفع رأسك، لا تهمِسْ، لا تَنْبِس بكلمة، لا.. لا تُكلِّم الرِّيح، ستنقلُ الرِّيحُ صوتَك، فيصل إلى حيث لا تُحب أن يَصل، ليس ذلك في صالحك، لا تفعل.. إن أنت فعلت ندِمْت، وإن أنت أخطأت وتكلَّمت، دخلتَ الدَّينونة، ولن تُخرجك منها الكائنات الطَّيِّبة، إنها قد تهتم بك وقد لا تفعل، فكل نفس بما كسبت رهينة.. وإن هي اهتمت بك وتدخَّلَت، فلا حيلة لها، فهي لا تَقْدِر، ولن تقدِر.. هناك قد تُحكَم مع الأشرار.. لا تجعل نفسك تموجُ على سطح رغائب نفسك، فإنَّ رغائبها مُهلكات، وإن أنتَ أُمسِكْتَ راغبا في شيء، أو تحرَّكت مَحكوما برغبة من أي نوع، فهناك من يمنعُك، ومن يدَّعي عليك، ومن يَجرُّك إلى محكمة تُحاكِم على الرَّغبات، وتحكم وفق الهوى والمُيول والنَّزوات.. لا تعجب، لا تهزأ، لا.. لا تضحك.. لا.. لا تضحك.. فلا يوجد هنا شيءٌ مما يُضحِك.. كلُّ مَن في الكون وما فيه من حولك، جديٌّ وجادٌّ إلى حدَّ التَّزمُّتْ.. حتى من نفسك أو على نفسك لا تضحَك.. أنت محكوم بالرِّضا، والطَّاعة، والخُضوع.. ماذا.. تقفز.. تقفز..؟! لماذا، وإلى أين؟! آه.. أزعجتك كلمة الخضوع فاعتقدت أنك حُرٌّ، وأنَّ لك الحق في أن تحتجَّ وتعترض وتنتفض، أو حتى في أن تتمرَّد.. لا.. لا.. أنت لا تستطيع الاعتراض ولا التَّمرُّد؟!.. ليس لك حق الاعتراض، ولا تستطيع التَّمرد.. اعقلْ واثقلْ واسمع واخضعْ.. لا.. لا.. لا تحاول، لا تتوهم أنك تقدِر، ولا تعتقد أنك لن تُسأل عن خَفايا نفسك وعن نِيَّاتِك، وعن.. لا تَتَبالَه، فهنا لا تحقيق، ولا دفاع، ولا محاكمة، ولا عَدالة.. هنا سجن الحياة.. وأنت هنا على هذا الشطِّ في سجن الحياة، مَحكومٌ، مَحكومٌ، مَحكوم.. وأنت حيث أنت هنا، مقيم بوصفك رَهينة.. نعم رهينة.. ومن حَولك جدران، وخلْف الجُدران جُدران، ولكل جدار منها حُراس، ولكلٍّ منها آذان.. آذان تسمع دبيبَ النَّمل، وتعلَم السِّرَّ وأخفى، وتُحاسِب على النِّيَّات والأنفاس.
ربما.. ربما.. لا بأس في أن تعرف، أنَّه عليكَ، في قُنِّكَ الفَضائي الذي أنت فيه، أكثر من سادنٍ رهيبٍ، ورقيبٍ مهيب.. أنت هنا رَهينة تجربة العيش المهينة، وتحت أعين الرُّقباء.. موقوف بادعاء الحُريَّة والقُدْرة على الإفلات من قبضة الارتهان، وبالتملُّصِ من التُّهم.. أنت نفْسٌ، والنَّفسُ أمَّارةٌ بالسُّوء، لكن إن هي فكَّرَتْ في أنها شَيء، وبأن لها رغبات وحقوقا، وأنها حُرَّة، وتستطيع أن تطير، وأن تقضي من رغباتها ما تشاء، وأن.. وأن.. وأن.. فذاك منتهى الحمق، بل منتهى العَتَهِ والغَفْلَة والبَلَه.. لا.. لا.. لا تتوهَّم.. ليس الأمر كذلك.. فاصمت، واصمت، واصمت.. وانظر أمامك، وانتظر على هذا الشطِّ، شطِّ الحياة، إلى أنْ يصل إليك من يقودُك إلى العَدَم، ويلقيك في هوَّة سحيقة من هُوى النسيان.. هناك لن تكون، ولن تُفَكِّر، ولن تَرى ما تَرى، فالوجود هو العدم.. وهناك يا.. يا.. يا رهين الزَّمان، يا أيها الإنسان.. يا ذا النَّفس البشرية الراغبة الغَوية.. هناك ما لا يمكن أن تراه أو تتصوره.. هناك الفراغ الكُلي، العدم المطلَق.. فيا لها من نفس في ذلك العدم المطلق، يا لها من نفس شقية نفسُكَ، نفسُ الإنسان.. الإنسان.