أيمن حسين
السياسة عبارة عن قرارات وإجراءات وتوجهات؛ بينما الاقتصاد هو نطفة السياسة والأب الشرعي لها وعصبها الذي يحركها لتظهر للعالم؛ لكن ما حدث في قمة العشرين ينافي ذلك تماما، فهي قمة اقتصادية في الجوهر والشكل، أما مسألة أنها تتحول إلى “فانتازيا” سياسية فإنها بذلك خرجت عن المسار المرسوم لها والمنتظر من كل شعوب العالم..
انطلقت يوم الجمعة الماضي في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس قمة الدول العشرين الكبرى (G20) والتي تضم 90% من الناتج العالمي، وداخل حدودها ما يقرب من ثلثي سكان العالم، وتابعتها المؤسسات المالية العالمية، والشركات الكبرى العابرة للقارات، والمستثمرون في مختلف أنحاء العالم، خصوصا وأن هناك توقعات بقرارات اقتصادية ربما تؤثر في منحى وتوجهات الاقتصاد العالمي، أو تحول رأس المال نحو الاستثمار في مجالات جديدة، لكن يبدو أن السياسة خيمت بأجوائها على القمة فلم تشرق شمس الاقتصاد.
عقدت القمة لأول مرة في أميركا الجنوبية وهي قارة تضم اقتصادات ناشئة، بخلاف البرازيل والأرجنتين، وتتمتع القارة بثروة في المواد الخام، ولها باع طويل في الزراعة، وأحرزت تقدما في الصناعة، لكنها تبقى بيئة جديدة للمستثمر العالمي.
مشاركة زعماء العالم في القمة كان لها ثقل كبير، لأنها ضمت رؤساء أعظم الدول الاقتصادية في العالم، ومنهم رجل أعمال من الطراز الفريد وهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وزعماء لهم تطلعات استثمارية تتعلق بالهيمنة وبسط النفوذ الاقتصادي والسياسي مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ لكن هذا لم يمنع أن تكون دوافع بعض الزعماء والقادة المشاركين تلميع الظهور السياسي لإزالة أتربة الإخفاقات السياسية التي تواجههم محليا ولها مردودات دولية مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والذي يواجه أزمة كبيرة بسبب مظاهرات أصحاب السترات الصفراء.
رغم أن العرف الجاري في هذه القمة أن تكون هناك لقاءات ثنائية يتمخض عنها قرارات واتفاقيات اقتصادية ضخمة إلا أن أهم لقاء تم الإعلان عن إلغائه وهو اللقاء بين بوتين وترامب بسبب رفض الأخير القرار الروسي بإلقاء القبض على 24 بحارا أوكرانيا و3 سفن أوكرانية في البحر الأسود قرب شبه جزيرة القرم.
وعلى صعيد الحرب التجارية التي تجري بين الصين وأميركا، لم تتطرق القمة سواء باجتماعاتها الرسمية أو لقاءاتها البينية إلى أزمة الرسوم التصاعدية وفرض الضرائب على الواردات، لكن أبرز ما حدث في هذا الشأن هو “تحذير” رباعي من الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة ضد الحمائية التجارية ومطالب بتقوية منظمة التجارة العالمية، ولم يتطرق التحذير إلى ذكر الرئيس ترامب أو بلاده رغم علم الجميع بأنه من يقود هذا التوجه.
ظهر الخلاف جليا بين قادة الدول، وهذا ما أكده الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري، أمام وسائل الإعلام لافتا انتباه الجميع إلى أن الحل هو “الحوار، الحوار، الحوار” – حسب قوله – وفي تضاؤل عقد اللقاءات الكبرى، وفي هيمنة السياسة على أدمغة صانعي القرار وزعماء الدول المشاركة مما انعكس سلبا على المشاركات في القمة؛ على الرغم من الإعلان المسبق عن ثلاثة أولويات لجدول أعمال القمة تتعلق باستدامة المستقبل الغذائي والبنية التحتية للتنمية ومستقبل العمل، لكن على صعيد الإجراءات والخطوات الفعلية لم تنجب القمة شيئا.
بوتين أعلن لوسائل إعلام روسية عن عقد اجتماع ثلاثي تمخض عنه إطار جديد وهو “روسيا ـ الهند ـ الصين” ـ حسب وصفه ـ وفي نفس الوقت وضع في مقدمة اهتمامات الحلف الثلاثي الجديد الاتفاق على قضايا الأمن، ثم التنسيق بشكل مشترك في قضايا التمويل والتجارة والمنافسة.
السياسة عبارة عن قرارات وإجراءات وتوجهات؛ بينما الاقتصاد هو نطفة السياسة والأب الشرعي لها وعصبها الذي يحركها لتظهر للعالم؛ لكن ما حدث في قمة العشرين ينافي ذلك تماما، فهي قمة اقتصادية في الجوهر والشكل، أما مسألة أنها تتحول إلى “فانتازيا” سياسية فإنها بذلك خرجت عن المسار المرسوم لها والمنتظر من كل شعوب العالم، لأن الجميع لم يكن ليتقبل الأحاديث الودية الجانبية أو الرداء السياسي الذي لبسه الزعماء لخلع عباءة الاقتصاد عن القمة، وهو ما أحبط التنافسية العالمية، وسبب ضررا للتجارة العالمية ـ ستظهر آثاره فيما بعد، ولم يقدم أحد رؤية لتعافي الاقتصاد، أو الإعلان عن إجراء ينتشل الاقتصادات المتأزمة، أو تقديم الدعم لاقتصادات تحتضر، ليثبتوا للعالم أجمع أن السياسة للزعماء والاقتصاد لرأس المال والأزمات للشعوب.