وصفت وكالة الأنباء الفرنسية ذهول السائحين الذين وصلوا العاصمة الفرنسية ليتمتعوا بسحرها في أجواء عيد الميلاد، خصوصا وأن المشهد أشبه بحرب الشوارع بين المحتجين وقوات الأمن، ويكسو حي الأوبرا سحب الغازات المسيلة للدموع وانتشار السيارات المحترقة، بينما ينبعث دخان كثيف يحجب واجهة قصر جارنييه. وقد أضرمت النار بفرش في مواجهة المقهى الأنيق “كافيه دو لا بي” من قبل المتظاهرين الذين اجتاحوا شوارع باريس، بعضهم للاحتجاج على السياسة الضريبية والاجتماعية للحكومة وآخرون للتصدي لقوات حفظ الأمن. وقد أغلقت كل مداخل المقهى العريق الذي علق فيه بعض الزبائن، فيما قيل لبعض السائحين الذين كانوا يحاولون الدخول إن المقهى “مغلق”. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد قال “أيّ قضية لا تبرّر مهاجمة قوات الأمن ونهب محال تجارية وتهديد مارة أو صحافيين وتشويه قوس النصر”.
هذا باختصار ملخص الأيام القليلة الماضية التي خلفت أحداثها احتجاجات أصحاب (السترات الصفراء)، بخلاف أعداد المصابين من الجانبين سواء المحتجين أو رجال الأمن. وتعود أسباب تلك المواجهات إلى الاحتجاج على زيادة الضرائب وأسعار المحروقات وتراجع القدرة الشرائية.
إلى هنا نتوقف عند سرد وكالة الأنباء الفرنسية على الاحتجاحات وأسبابها، ولأننا في عالم مترابط يعيش بمنطق الوصل لا الفصل؛ وبسبب مشاهد الحرق والدخان وتكسير المحلات والسيارات وحرقها فتذكرت على الفور ما حدث في القاهرة من احتجاجات خرج بسببها الآلاف إلى الشوارع في الثامن عشر والتاسع عشر من يناير عام 1977 والتي أطلق عليها المحتجون حينها (انتفاضة الخبز) فيما سماها الرئيس الراحل أنور السادات (انتفاضة الحرامية) وكانت الاحتجاجات انطلقت لنفس الأسباب تقريبا، حيث زادت الأسعار زيادة طفيفة جدا ـ كان بمقدور الناس تحملها في ذلك الوقت ـ وشهدت الاحتجاجات المصرية أعمال تكسير وحرق أدت في النهاية إلى إصدار أمر من الرئيس الراحل أنور السادات إلى الحكومة بالتراجع عن تلك الزيادات وعودة الأسعار إلى ما كانت عليه تلبية لرغبة المحتجين؛ رغم أن الشعب المصري تحمل زيادات أضعاف مضاعفة في العام الجاري 2018 ولم يصدر عنه حتى “مصمصة شفاه” أو “شبه اعتراض”، ويفسر البعض هذا أنه إما بسبب الخوف من ردة فعل الأمن أو من أجل التلاحم لإتمام مسيرة الإصلاح الاقتصادي والمحافظة على استقرار البلاد.
تطابق الحالة الفرنسية مع الحالة المصرية يعكس أن الدافع مشترك، وهو تحرك الناس حين يمس الجوع بطونهم، مع أنه لا يوجد تشابه في الحالة المعيشية بين الدولتين، ففرنسا تعد من الدول الاقتصادية الكبرى في العالم ويعيش مواطنوها تحت حد معين من الرفاهية لا يقبل المساس بها ودخل الفرد لديها أعلى كثيرا من المصريين، أما في مصر فهي تجري إصلاحات اقتصادية جذرية تأخرت عن البدء فيها منذ ستين عاما.
وفي فرنسا اتّهم زعيم اليسار المتطرف جان لوك ميلانشون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن الحكومة بأنها سمحت بحدوث أعمال العنف لضرب مصداقية غضب شعبي تعجز عن تهدئته، وفي نفس الوقت تقول الحكومة إن المعارضة هي من تغذي هذه الاحتجاجات من أجل إجبار الرئيس الفرنسي ماكرون على الاستقالة؛ أما في احتجاجات مصر عام 1973 فاتهم السادات من قاموا بالاحتجاج بأنهم (شوية حرامية) مدفوعين بمخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات لقلب نظام الحكم.
في الحالتين دوافع الاحتجاجات واحدة، وأيضا التبريرات واحدة، وكأن شعوب البحر الأبيض المتوسط تجتمع أحيانا على رؤية واحدة للأحداث، وهذا ما يؤشر بأن تلك الاحتجاجات لن تقف عند حدود فرنسا وقد تمتد لدول أخرى لديها نفس الأسباب، كما أن العلاج الأمني لن يفلح مع مثل هذه الاحتجاجات، بل على الحكومات أن تستمع لشعوبها وتستجيب للمطالب الضرورية منها، ففي الماضي، وكما تحكي رواية “البؤساء” قصة جان فالجان الذي امتدت يده إلى رغيف خبز من أجل إطعام أخته وأطفالها السبعة الجياع، فأصدرت المحكمة حكمها بسجنه خمس سنوات مع الأشغال الشاقة امتدت إلى 19 سنة من أجل رغيف خبز. واليوم إذا استمر الجوع لن يقبل المحتجون أن يسجنوا 19 سنة من أجل رغيف خبر واحد. فالأدوات اختلفت كما اختلفت الأهداف التي يغذيها المتنمرون، ويتساءل السياسيون: هل تستجيب الحكومة الفرنسية لمطالب المحتجين؟ أم تزيد قوتها الأمنية بزعم المحافظة على هيبة الدولة وبقاء ماكرون في قصر الأليزيه، إلا أن الإجابة جاءت سريعة بقرار الحكومة الفرنسية تعليق الزيادة المقرّرة على ضريبة الوقود مدة ستة أشهر انحيازا منها لتهدئة الاحتجاجات، في تشابه تام لأحداث (انتفاضة الخبز).