بشير عبدالفتاح
من بين زوايا شتى يمكن من خلالها قراءة ما يعتمل داخل الساحة السياسية البريطانية على خلفية مساعي الخروج المستعصي من الاتحاد الأوروبي، أو ما يعرف إعلامياً بـ»بريكسيت»، برأسه يطل الدور الذي تضطلع به العملية الديموقراطية في هذا المضمار، على أكثر من صعيد.
فبعدما وصفها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل بأنها أسوأ نظام حكم، مبرراً تشبث العالم الحر بها بعجز الإنسانية عن ابتكار نموذج أفضل منها لإدارة الدول وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تجد الديموقراطية البريطانية نفسها في موضع الاتهام خلال أزمة البريكسيت، التي استعر أوارها في أعقاب الاستفتاء الذي أجرى في حزيران (يونيو) 2016، وصوّت خلاله 52 في المئة فقط من البريطانيين لصالح تلك الخطة المربكة، ورغم أنها توفر مسوغاً قانونياً ودستورياً لتمرير الخطة، إلا أنها ربما لا تكون كافية من الناحية السياسية لاعتماد قرار تاريخي ومصيري كالبريكسيت، الذي قد يتطلب حداً أدنى من التأييد الشعبي لا يقل عن 65 في المئة أو 70 في المئة، خصوصاً أن تمرير القرارات داخل مجلس الاتحاد الأوروبي، المعنى بالمسائل الأمنية وقضايا السياسة الخارجية المشتركة للاتحاد، لا يتم إلا بأغلبية مؤهلة تصل إلى 72.27 في المئة، أي 232 صوتاً من بين 321 صوتاً موزّعة على الدول الأعضاء، التي يتعين أيضاً موافقة أغلبيتها على أن يشكل تعداد سكان تلك الدول الموافقة مجتمعة ما يعادل 62 في المئة على الأقل من إجمالي تعداد سكان دول الاتحاد. ووفقاً لجيريمي غرينستوك، السفير البريطاني السابق لدى الأمم المتحدة، الذي اتهم الطبقة السياسية البريطانية بالتواطؤ، كونها لم تأخذ بعين الاعتبار آراء قطاع معتبر من الشعب البريطاني المتوجس من البريكسيت، حينما استغلت الإعلام المتحالف معها خلال الاستفتاء المثير لتفزيع الناخبين من فرية انضمام تركيا الوشيك للاتحاد الأوروبي توطئة لأسلمته، فقد تم خداع الناخبين البريطانيين وتعبئتهم ودفعهم للتصويت لصالح خطة البريكسيت. بدورهم، اتهم برلمانيون رئيسة الوزراء بتعمد رفض الإفصاح عن بدائلها المقترحة لتلك الخطة، وعدم تبصير الناخبين بملابسات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وتداعياته السلبية المحتملة، بما يمكن أن يسهم في عقلنة السلوك التصويتي لأولئك الناخبين ومن ثم تغيير نتائج الاستفتاء القادم حول مستقبل العلاقة بين لندن والأتحاد الأوروبي، خصوصا في ظل حالة عدم الالتزام الحزبي، التي تخيم على أعضاء حزب المحافظين، الذي يؤيد عدد من نوابه البرلمانيين بقاء بلادهم في الاتحاد الأوربى. وشكلت الديموقراطية أحد أهم دوافع الجنوح البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي هرباً مما أسماه مراقبون بريطانيون «الفاشية الناعمة» المتمثلة في هيمنة البرلمان الأوروبي على غالبية القرارات المصيرية المتعلقة بمستقبل دول الاتحاد، فبعدما قبر مشروع الدستور الأوروبي الموحد نتيجة رفض الناخبين الفرنسيين له في استفتاء شعبي أجرى عام 2005، حلت معاهدة لشبونة 2007 محل ذلك الدستور ونسخت جميع الاتفاقيات السابقة الخاصة بنشأة وهيكلة الاتحاد الأوروبي، كاتفاقية روما 1957 وماستريخت1992، واللتين رسختا مبدأ استفتاء الشعوب الأوروبية على مختلف السياسات والقرارات المصيرية للاتحاد. ومن ثم أضحى مستقبل الشعوب الأوروبية مرتهناً بقرارات مؤسسات الاتحاد الأوروبي، التي منحتها معاهدة لشبونة حق تجاهل إرادة المواطنين الأوروبيين استناداً إلى كون غالبية الموجودين في تلك المؤسسات منتخبين أصلاً من قبل أولئك المواطنين.
على خلاف المأمول، فجَّرت خطة بريكسيت زلزالاً سياسياً مدمراً داخل المملكة المتحدة، فعلاوة على تصدع حزب المحافظين وتمزق أوصال حكومة ماي على نحو تجلى في استقالة سبع وزراء منها، شجعت الديموقراطية البريطانية إقليمي اسكتلندا وإيرلندا على التفكير جدياً في إجراء استفتاءات بشأن الانفصال عن المملكة المتحدة. فبينما دعت رئيسة الحكومة المحلية الاسكتلندية البرلمان الأسكتلندي إلى عدم الاعتراف بمفاعيل الاستفتاء البريطاني بغية استبقاء عضوية اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما رفضته بروكسيل لافتة إلى أنه لا يحق لاسكتلندا تقديم طلب منفرد بالانضمام إلى الاتحاد إلا بعد أن يتسنى لها الانفصال رسمياً عن المملكة المتحدة، هرع حزب «الشين فين» لطرح فكرة توحيد شطري إيرلندا توطئة لإعلان الاستقلال عن بريطانيا، فيما طالب وزير الخارجية الإسباني لندن بإدارة مشتركة لإقليم جبل طارق توخياً لضمان استمرار علاقته العضوية الوثيقة بالاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا المحتمل منه. وبينما تبقى فرص انتزاع رئيسة الوزراء ماي موافقة البرلمان البريطاني على خطة البريكسيت متواضعة، في ضوء معارضة نواب محافظين وعمال لتلك الخطة، تجد ماي نفسها محاصرة وسط عدة سيناريوهات أحلاها مر: فإما الاستقالة من رئاسة حزب المحافظين مما يفجر منافسة داخلية شرسة على خلافتها دون انتخابات عامة، وإما الإطاحة بها من رئاسة الحكومة، خصوصا إذا طالب بذلك 48 نائباً من بين 315 نائباً للمحافظين في البرلمان، إذ سيجري الحزب تصويتاً على سحب الثقة من ماي، كما يمكن لحزب العمال المعارض الدعوة للتصويت على سحب الثقة من الحكومة بغية تولي مقاليد الأمور في البلاد من دون حاجة لإجراء انتخابات، وإذا خسرت حكومة ماي تصويتاً بسحب الثقة ولم يتمكن حزب العمال من تشكيل حكومة جديدة فستتم الدعوة لانتخابات مبكرة، وفيما يخولها الدستور الدعوة لانتخابات عامة حالة موافقة ثلثي نواب البرلمان، ترفض ماي ذلك التوجه الذي تعتبره مناهضاً لمصلحة البلاد. يبقى أخيراً احتمال إجراء استفتاء جديد بشأن مستقبل العلاقة بين لندن والاتحاد الأوروبي، وهو السيناريو الذي تسعى ماي للنأي بنفسها وبلدها عن تجرعه، معتبرة إياه خيانة لإرادة 52 في المئة من البريطانيين، ومن ثم أعلنت مراراً رفضها تأخير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عبر تمديد فترة التفاوض معه لإتاحة الوقت للتوصل إلى اتفاق أفضل، كما أكدت عدم نيتها سحب خطاب النوايا الخاص باعتزام بلادها الانسحاب من الاتحاد الأوروبى.
بيد أن رفض ماي لخيار الاستفتاء الجديد قد قوبل بترحيب تيار عريض يضم برلمانيين وسياسيين ورجال أعمال وشرائح شبابية بإجراء هذا الاستفتاء، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة «ذي دايلي ميل» تأييد 48 في المئة من البريطانيين إجراء استفتاء جديد مقابل رفض 34 في المئة فيما خرج نحو 700 ألف متظاهر في لندن يطالبون بإجراء ذلك الاستفتاء. وناشد برلمانيون محافظون مدافعون عن بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، رئيسة الوزراء ماي عدم استبعاد خيار إجراء استفتاء ثان حول بريكسيت في حال رفض البرلمان البريطاني تمريره. بدوره، أعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، على هامش قمة مجموعة العشرين في بوينس آيريس، أن رفض البرلمان البريطاني للبريكسيت سيضع بريطانيا أمام أحد خيارين: إما الخروج من دون اتفاق في 29 آذار (مارس) 2019 بما يستتبعه ذلك من فوضى يمكن أن تعصف بمكتسبات الإنكليز، أو إجراء استفتاء جديد يبقى على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
وإذا ما تسنى إجراء ذلك الاستفتاء الجديد، ستلوح أمام الديموقراطية البريطانية الأعرق عالمياً، فرصة تاريخية للعبور بالبلاد والعباد هذا النفق المظلم، ومن ثم تصحح نفسها بنفسها، خصوصاً إذا ما حسم الناخبون البريطانيون ذلك الجدل السياسي الحامي الوطيس وصوتوا بأغلبية معقولة لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، لاسيما وأن تصويتهم هذه المرة لن يكون كسابقه، إذ سيأتي متحرراً من أي محاولات للخداع أو التضليل بغرض التأثير في سلوكهم التصويتي وتوجيههم نحو الموافقة على خطة فاتهم الإلمام بملابساتها والإحاطة بتداعياتها على مختلف الصعد. وحينئذ، سيكون التصويت لمصلحة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، إن تم، بمثابة السبيل الأمثل لتجنب مآلات قد لا تروق للكثيرين.
فلقد حذر مراقبون من احتمال أن يتمخض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بغير اتفاق ملزم ومتكامل، عن تداعيات كارثية، عدد تقرير للحكومة البريطانية بعضها في ضياع نسبة 9,3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة، وفقدان الجنيه الاسترليني 25 في المئة من قيمته، فيما رأى ديفيد ديفيس، وزير البريكسيت السابق، أن طلاقاً مع أوروبا عبر اتفاق، أياً تكن صيغته، كفيل باستدعاء تداعيات سلبية مشابهة لتلك التي أسفرت عنها أزمة حرب العراق 2003، حينما اعتقد توني بلير رئيس الحكومة في حينها، أن مشاركته الرئيس الأميركي بوش الإبن غزو واحتلال العراق سيمنحه مجداً سياسياً على غرار ذلك الذي أتاحته حرب فوكلاند لمارغريت تاتشر عام 1982، لكنه سقط في فخ العبث بأمن وسيادة بلد عضو في الأمم المتحدة من دون مبرر استراتيجي أو مسوغ قانونى. وفي ما يخص رهان ماي على علاقات تجارية أوثق مع واشنطن بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بما يحول دون تقويض اللحمة الأوروبية في مواجهة روسيا، فقد أبي الرئيس الأميركي ترامب إلا أن يصدم رئيسة الوزراء البريطانية من خلال الإعراب عن امتعاضه من صيغ الطلاق البريطاني الأوروبي المقترحة على شاكلة «الخروج المرن»، أو «الشراكة الطموحة»، أو «النرويج بلس»، والتي يعتبر أنها لن تساعد على تعميق الشراكة الاقتصادية بين واشنطن ولندن بعد خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبى.