زهير ماجد
أحيانا لايستطيع الكاتب أن يتحدث بصراحة عما يعرفه أو يجول في خاطره أو مايقرأه بين السطور .. منطق الدبلوماسية في الكتابة أن تراعي الموقع الذي تكتب فيه، إضافة إلى الآخرين الذين قد تطالهم الكتابة إذا مافتحت الأسرار وتكشفت.
الخبرة في الكتابة بقدر ماهي تطوير للفهم والأداء، تربك الكاتب عند التفكير بمسؤولية في ماسيكتب ..عالم الكلمات دقيق إلى الحد الذي نجد فيه تعبيرنا وقد انساق أحيانا خارج النص الذي يجب أن تتم هندسته ضمن الحفاظ على مانحن بصدده.
لا توجد كتابة لمجرد الكتابة، لصف الكلمات، لصناعة الكتابة، فإما التحدث بصدق العبارات أو لاكتابة على الإطلاق . لهذا نكتب، ونرسم، لكن الشعر وحده مايخفي أحيانا مقاصد الشاعر .من هنا ظهرت المدارس الأدبية والفنية وتعمقت، عمقها الإنسان بعد أن أوجد لها الطرق التي يصلح التعبير عنها .لكن معظم المدارس تلك ظهرت بعد الحروب أو أثناءها، وبعد أن شعر المفكر كم هو مدمر قتل الإنسان وتدمير الحياة وتغيير نظام الأشياء بالقوة . من يقرأ جان بول سارتر وألبير كامو عن الحرب العالمية الثانية سيجد ضالته في هذا المجال.
أثناء الحرب العراقية الإيرانية ظهر أدب خاص بها كتبه عراقيون، وربما إيرانيون أيضا كتبوا تجربتهم، لكن ما عرفناه عن العراقيين أن كتابا وروائيين وقصاصين وفنانين من كل الأنواع شاركوا بها وكل منهم عبر بطريقته عنها، فما كان من الرئيس الراحل صدام حسين سوى أن وضع جائزة لأفضل رواية أو قصة عن الحرب ووضع لها نقادا كبارا قرأوا النصوص وقدموا فيها دراساتهم ثم أعلنوا الفائزين.
في مثل هذه الحال تبدو الكتابة واقعية مأخوذة تماما من تجربة فرد أو جماعة.. لاشك أنها الأصدق، ويمكن للناقد أن يفصل بين صدقها وبين اختراع الأحداث.. هذه الفكرة حملتها ذات مقال إلى القيادة السورية لتعيد تكرار تجربة العراقيين بما جرى مع المقاتلين السوريين في الجبهات العسكرية وهم أيضا من منابت متعددة، منهم الفنان التشكيلي، ومنهم الروائي والقاص، ومنهم صاحب تفكير اجتماعي، ومنهم الموسيقي أو صاحب الصوت الجميل .. في كل جيوش العالم تحتشد طاقات كامنة، فكيف نفجرها بالتالي، سوى أن نطلق مشروعا هو أشبه بمباراة لها خصائصها.
صحيح أن الوقت معطى كله للمعركة وللحشد وانتظار أوامر التحرك، وهو أمر مصيري بالدرجة الأولى، لايمكن بالتالي إدخال فكرة مهما كانت عليه، لكن في استراحات المحاربين، وأكاد أجزم، أن كثيرا من المقاتلين في شتى مواقع الجيش، كتبوا شيئا من المذكرات الحية التي واجهتهم واحتفظوا بها لليوم الذي يتمكنون فيه من الكتابة المتكاملة، لكنهم وضعوا لبنات ماسوف يكتبون، ممهورة بالصدق وبالعرق والدم والموت الذي جرى أمام عيونهم..
إبان العهد السوفياتي، كان كل شيء في خدمته، فكرا وكتابة وتعبيرا وفنا ورياضة .. وبرز من أجله نقاد كبار أعطوا قيمة لهذا الإنتاج المتراكم.. صحيح أن الكتابة تحت سقف مفروض فروضا لايترك مجالا للإبداع لأن الفكرة سباقة على التفكير الذي هو في خدمتها، إلا أن القيمة في النهاية مشروع أنسنة بالدرجة الأولى.
أجمل مافي الكتابة أنها إخراج المدفون في الصدور وفي الأحاسيس وفي نظام الحياة .. ثمة ما يلزم الإنسان في التعبير، هي ليست دبلوماسية الكتابة هنا، بل ربما طوق حول عنقه.