فيصل العساف
في العام 2016 خطب أردوغان في مواطنيه مذكراً إياهم بأمجاد الدولة العثمانية البائدة، حاضر عليهم عن حدودها التي تقلصت، وعن جذورهم العصملية السلجوقية، أعادهم في تلك الليلة قروناً إلى الوراء وهو يتوجد على حلب! هل تسأل عن علاقة حلب بكل ذلك؟ لا تذهب بعيداً في خيالك ظنّاً منك بأن فخامته إنما كان ينتصر لأهلها من جور زبانية بشار وإيران، وحتى تتأكد من عدم علاقة هذا بذاك، عليك استحضار قصة خط حلب الأحمر وكيف تحول إلى أسود من هول نكبتها، تنتشر في ثناياه رائحة غاز الكلور السام، فيما «هو» يتفرج! إن حلب «السورية» في مخيلة الرئيس التركي لا تختلف عن الموصل «العراقية»، ولا عن مكة أو المدينة فيما بعد، الفرق أن الطريق إلى الحرمين الشريفين يرى أردوغان أنه يمر عبر «إعادة» احتلال الشماليْن السوري والعراقي.
هذه ليست مزحة، ولا رجماً بالغيب، ولا تهمة ألقيت جزافاً جرّاء الحنق من مواقف أردوغان وأزلامه وإعلامه في قضية جمال خاشقجي أخيراً، وإنما هي امتداد للتحذير من نواياه وما يضمره من تآمر على الجميع، في ظل ظروف يعتقد بأنها فرصته الأنسب للانقضاض على كل ما هو عربي، فلقد قال: «في العام 2016 لا يمكن أن نتحرك بنفسية 1923».
«المللي» في عنوان المقالة ليست خطأً طباعياً، ولا علاقة لها بوحدة القياس، وإنما هي إشارة إلى الميثاق الذي أقره البرلمان التركي في العام 1920 راسماً من خلاله حدود تركيا بعد الهزيمة المذلة في الحرب العالمية الأولى، وبحسب أردوغان في خطبته آنفة الذكر، فإن الذي فرّط فيه إنما كان «يتوهم» عجزه عن حمايته! في جميع الأحوال، هذا الميثاق أو الإعلان – سمه ما شئت – لا يعدو كونه «حديث مجالس» تذروه الرياح، في مقابل اتفاق سيفر من ذات العام أو اتفاق لوزان بعد ثلاثة أعوام 1923، اللذين بصمت تركيا على ما جاء فيهما بين يدي الدول المنتصرة.
ما يهمنا هو أن أردوغان الذي يضرب في كل الاتجاهات إنما يسابق «زمنه» نحو تحقيق نهمه التوسعي، واضعاً نصب عينيه نجاحه في بسط نفوذه على الأتراك بانقلابه على شيوخه الذين مهّدوا له طريق السلطة، ثم بمسرحية الانقلاب العسكري «الفاشلة» التي عززت سلطانه، معتقداً أن اللعب على حبال قلة المروءة والخيانة والانتهازية يمكن أن تفيده خارج حدود بلاده في غمرة الأحداث الإقليمية المتسارعة، إلا أنه يخطئ كثيراً حين لا يرى سوى نفسه لاعباً في ميدان السياسة الواسع. أقول هذا وأنا على يقين بأن أردوغان المسكون بجنون العظمة «كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً»، فلا هو سيطول فستق حلب وكليجة الموصل على مسرح الهيمنة الدولية التي تفوقه حجماً، ولن يتم الدعاء له على منابر الحرمين الشريفين بعد «تدمير» السعودية كما يتمنى، كل ما هنالك أنه يزيد من غربة تركيا في سبيله، وليس أدل على ذلك من إحراقه وفي وقت مبكر جملة الكروت التي يمتلكها بذهابه بعيداً جداً في موضوع جمال خاشقجي، واضعاً العلاقة مع السعودية على المحك، في امتحان حقيقي لصبر السعوديين وحلفائهم الذين لا تزال أوراقهم الكثيرة التي يمكنهم من خلالها مناورته ثم إخضاعه، قيد الأدراج «إلى حين».
* كاتب سعودي.