«أحسن التقاسيم…» للمقدسي: عين ترصد ما لا يراه آخرون

1

 
ابراهيم العريس
 
في الحقيقة أنه ما إن يؤتى على ذكر التجوال الذي كان سائداً بين الديار التي كانت تشكل ما كان يعتبر المنطقة العربية ضمن إطار ديار الإسلام، حتى تعود إلى الذاكرة تلك المقدمة التي جعلها واحد من كبار أولئك الجوالين مدخلاً إلى كتابه، وأكثر من ذلك، شرحاً لأسلوبه في التجوال وبالتالي في تدوينه محصلة ما زاره ورصده.
 
 
وهي بالتأكيد مقدمة تعيد إلى الأذهان ما كتبه الإمام الغزالي ذات يوم في «المنقذ من الضلال»، في معرض حديثه عن أسلوبه- وبالتالي غايته- في مجال رصد أفكار الآخرين سواء أحسّ بانتمائه إليهم أو اعتبرهم مناوئيه فكرياً.
 
ولنقرأ هنا ما كتبه هذا الرحالة الذي نتحدث عنه هنا: «ما تمّ لي جمع هذا الكتاب إلا بعد جولاتي في البلدان، ودخولي أقاليم الإسلام ولقائي العلماء وخدمتي الملوك ومجالستي القضاة ودرسي على الفقهاء، واختلافي إلى الأدباء والقراء وكتبة الحديث ومخالطتي الزهاد والمتصوفين، وحضور مجالس القصاص والمذكرين، مع لزوم التجارة في كل بلد، والمعاشرة مع كل أحد، والتفطن في هذه الأسباب بفهم قوي حتى عرفتها، ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنتها، ودوراني على التخوم حتى حررتها، وتنقلي إلى الأجناس حتى عرفتها، وتفتيشي عن المذاهب حتى علمتها، وتفطني في الألسن والألوان حتى رتبتها، وتدبري في الكور حتى فصلتها، وبحثي عن الأخرجة حتى أحصيتها. مع ذوق الهواء، ووزن الماء، وشدة العناء».
 
> كاتب هذا الكلام أحمد بن محمد بن أبي بكر المعروف بـ «المقدسي» نسبة إلى موطنه مدينة القدس، عاش قبل نحو ألف عام من ظهور مدرسة «الحوليات» Les Annales التاريخية- الجغرافية الفرنسية التي نعرف أنها أحدثت في القرن العشرين ثورة حقيقية في كتابة التاريخ، محولة إياه من وصف فوقي للدول وسلطاتها وحروبها، إلى وصف تحتي يهتم بالتفاصيل الصغيرة في حياة الشعوب، أي مازجة بين ما هو تاريخ وما هو جغرافيا وما هو من خصائص المجتمعات في بوتقة واحدة.
 
ومع هذا فأن المقدسي، كان واحداً من الرحالة والجغرافيين المسلمين الكثيرين الذين «أرّخوا» للحياة الاجتماعية وتفاصيلها بصرف النظر عن «الأحداث الكبرى»، ممهدين الطريق بهذا الظهور لمؤلفي الخطط من «المقريزي» إلى علي مبارك إلى محمد كرد علي، الذين، هم، سيكونون في كتاباتهم، أرهاصاً- حتى وإن كان يمكن القول إنهم لم يكونوا واعين نظرياً تماماً- بظهور المدارس الغربية الجديدة التي يرى مؤرخو الفكر أنها «أعادت اختراع التاريخ في القرن العشرين».
 
> كتاب المقدسي الأشهر «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» وضعه هذا المؤلف خلال السنوات الأخيرة من حياته التي انتهت أعواماً قليلة قبل بداية الألفية الميلادية الثانية. إنه ليس كتاباً في التاريخ بالطبع، بل هو أصلاً كتاب يمكن إدراجه منطقياً في النوع المسمى أدب الرحلات، غير أن قيمته في سرد التاريخ كبيرة.
 
إذ تضاف إلى كتابته في سرد وصف البلدان، وإلى تفصيله المدهش في وصف الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية للشعوب
 
التي زارها.
 
وهذا ما دفع المستشرق غليد مايستر، الذي كان من أوائل الذين اكتشفوه في أوروبا إلى أن يقول عنه: «لقد امتاز المقدسي عن سائر علماء البلدان بكثرة ملاحظاته وسعة نظره». كما قال عنه شبرنغر: «لم يتجول سائح في البلاد كما تجول المقدسي، ولم ينتبه أحد أو يحسن ترتيب ما علم به مثله».
 
* أما الباحث المصري الذي كان من أبرز مؤرخي الآداب العربية في القرن العشرين، شوقي ضيف، فقد أفرد له فصلاً في كتابه «الرحلات»، قال عنه فيه: «هو في رأي بعض المستشرقين أعظم الجغرافيين عند العرب في جميع عصورهم». ولفت شوقي ضيف في شكل خاص إلى كيف أن المقدسي كان في «أحسن التقاسيم» مهتماً اهتماماً شديداً بالحديث عن «اختلاف أهل البلدان الإسلامية في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم ونقودهم وصفة طعامهم وشرابهم وثمارهم ومياههم ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم وما يحمل من عندهم وإليهم، ومعادن السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدل، والمشاهد والمراصد والخصائص والرسوم والممالك والحدود»، وذلك بحسب تعبير المقدسي نفسه في مقدمة كتابه هذا.
 
والحال أن من يقرأ فصول هذا الكتاب الاستثنائي، يجد أن المقدسي، في وصفه كتابه، لم يكن مغالياً أبداً ولا بعيداً من الصواب، إذ أن تلك الفصول تكشف مدى الجهد الكبير الذي بذله الرجل موثقاً ملاحظاً، وهو يتناول أحوال كل بلدة ومدينة وزاوية من زوايا عالم الإسلام، متحدثاً عن أوصافها الجغرافية، مسهماً بالتحديد في تناول طبائع البلدان وعادات سكانها متوقفاً عند اللغات واختلافها، وعلاقة اختلاف اللهجات بالأصول والمناخات وما إلى ذلك.
 
> والطريف أن «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لا يستنكف عن التوقف، بين الحين والآخر لكي يمضي في المقارنة بين البلدان والأقاليم الإسلامية، مقارنة تستند إلى دقة إطلاعه على ما يتميّز به كل إقليم من الأقاليم، أو ما يكون من مساوئه، وذلك على الدوام انطلاقاً من الأحوال المناخية التي تخلق، في رأيه المبكر، أطباعاً خاصة بكل منطقة وإقليم من النوع الذي يمكن أن يسميه علماء اليوم السيكولوجيا الجماعية. ومن هذا ما يقوله مثلاً في حديثه في مجال المقارنة- ونحن ننقل هنا عن النص الذي كتبه شوقي ضيف عن المقدسي:- «أظرف الأقاليم العراق، وهو أخف على القول وأحدّ للذهن، وبه تكون النفس أطيب والخاطر أدق. وأجلها وأوسعها فواكه، وأكثرها علماء، وأجلّها المشرق أي الدولة السامانية في خراسان، وأكثرها صوفاً وقزاً الديلم جرجان وطبرستان وأجودها ألباناً وأعسالاً وألذها أخباراً وأمكنها زعفراناً الجبال أعالي إيران، وأكثرها ثماراً وأرخصها أسعاراً ولحوماً وأثقلها قوماً الرحاب، وأسفهها قوماً وأشرّهم أصلاً ومقتلاً خوزستان، وأحلاها تموراً وأوطأها قوماً كرمان، وأكثرها أرزازاً ومسكاً وكافوراً السند، وأكيسها قوماً وتجاراً وأكثرها فسقاً فارس، وأشدها حراً وقحطاً ونخيلاً جزيرة العرب، وأكثرها بركات وصالحين وزهاداً مشاهد الشام، وأكثرها عباداً وقراء وأموالاً ومتجراً وخصائص وحبوباً مصر، وأجفاها وأثقلها وأكثرها مدناً وأوسعها أرض المغرب».
 
> وواضح من هذا الكلام المقارن الذين يبدو واثقاً كل الثقة من أحكامه، أن المقدسي بنى هذه الأحكام، في شكلها الذي يدهش بما فيه من قطع وصرامة، انطلاقاً من المعاينة الشخصية.
 
فما هو المدى الذي كان في وسعه أن يعاين ضمن إطاره؟ كم من الوقت تراه بقي في كل أقليم وأرض؟ وأي مساحة من مساحتهما شاهد ودرس وغطى بملاحظاته؟ ليس ثمة من جواب قاطع عن هذه الأسئلة. ولكن، من الواضح أنه ما كان في إمكان رجل كالمقدسي أن يرصد كل ذلك الرصد، إلا انطلاقاً من عين ثاقبة ومن ثقافة عريضة.
 
فكيف، يا ترى، لا يعرف الباحثون له كتاباً غير هذا الكتاب؟ أو على الأقل هذا ما وصل إلينا منه، ويبدو أن سبب ذلك عدم تمتعه بالشهرة التي تمتع بها زملاء له سابقون عليه أو لاحقون له، من أمثال إبن بطوطة وإبن جبير اشتهرت أعمالهم أكثر من اشتهار كتابه هذا.
 
> إن سيرة محمد بن أحمد المقدسي، التي تُروى عادة بكثير من الاختصار طالما أن ما عرف عنه لم يكن وافياً، تقول لنا إنه ابن أبي بكر البناء، المقدسي ويقال له البشاري، شمس الدين وأبو عبدالله، ولد في القدس، في نحو العام 336 هـ 947م. ومات فيها أيضاً، كما يبدو، في نحو العام الهجري 380 الميلادي 990. وهو، بعدما نال قسطاً ما من التعليم الفقهي والأدبي، أغرم كما يبدو بالتجارة التي تعاطاها كمهنة مبكرة، ما مكنه من أن يطوف في البلدان الإسلامية «متجشماً أسفاراً هيأت له المعرفة بغوامض أحوال البلاد»، كما يقول خير الدين الزركلي في كتاب «الإعلام». ومن المؤكد أنه خلال سنوات مارس فيها التجارة، أخذ يرصد في كل مكان يقصده أحوال البلاد والعباد بعين المثقف الفضولي، والتاجر الدقيق الحسابات، وصاحب الدين المهتم بديار دينه وبأخوته في الدين، وأخذ يدوّن أوراقاً وتفاصيل، وهو ما إن عاد إلى بلده، حتى انصرف إلى جمع كل ما دوّن وحوّله فصولاً ونصوصاً، لم يعطها شكلها النهائي إلا لاحقاً حين طوّف مرة أخرى في البلدان والأقاليم، ما انتج بعد عودته النهائية هذا الكتاب، الذي ينظر إليه كثر على أنه كتاب تأسيسي في وصف البلدان، إلى جانب كتابات ابن حوقل وابن بطوطة والإدريسي.

التعليقات معطلة.