د. رجب بن علي العويسي
أوضحت مؤشرات نتائج المسح الوطني للأمراض غير المعدية الذي نفذته وزارة الصحة مؤخرا، العديد من النتائج النوعية التي تستدعي البحث عن آليات أكثر دقة ومهنية في التعاطي معها، سواء ما يتعلق بصحة المواطن نفسه أو دور المؤسسات الصحية أو تعاطي المؤسسات الأخرى بالدولة والقطاع الخاص مع هذه النتائج، حيث أظهرت مؤشرات المسح أنّ “الخمول” البدني أحد المسببات الرئيسية للكثير من الأمراض غير المعدية، وأحد التحديات المقلقة التي باتت تؤثر سلبا على جاهزية المواطن الصحية وقابليته في التعاطي الواعي مع مشكلات زيادة الوزن وارتفاع مستوى الكولسترول أو أمرض السمنة الأخرى، فقد أظهرت نتائج المسح أن 41.6% من العمانيين و30.6% غير العمانيين يعانون من خمول بدني، إذ لا يمارسون نشاطا بدنيا كافيا، وترتفع هذه النسبة بين العمانيات الإناث لتصل إلى 50.6%، أي نصف العمانيات اللاتي لا يمارسن نشاطا بدنيا كافيا. وقد جاءت هذه النتائج متوافقة مع ما خلصت إليه نتائج استطلاع سابق حول ممارسة المواطن العماني للرياضة وأثرها على صحته، نفذه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في عام 2015 على عينة من المواطنين العمانيين، بلغ حجم العينة 1694 مواطنا عمانيا في الفئة العمرية (18 سنة فأعلى)، والذي خرج بنتائج نوعية ينبغي أن تكون حاضرة في أي توجهات قادمة في تأطير هذه المشكلة أو دراستها أو تبني استراتيجيات وطنية في التعامل مع الأمراض غير المعدية من منظور الرياضة المجتمعية الواعية والأساليب الصحيحة في ممارستها.
لقد أشارت نتائج المسح المنفذ من المركز الوطني بأن الغالبية العظمى من العينة (84%) يرون أن ممارسة الرياضة أمر مهم جدا، وأن رياضة المشي هي أهم الرياضات الممارسة من قبل المواطن العماني، حيث إن أكثر من ثلاثة أرباع المواطنين العمانيين الممارسين للرياضة، منهم (77%) يمارسون رياضة المشي، وهي الرياضة الأولى للجنسين، وشكلت نسبة ممارستها بين الإناث(94%) بنسية مئوية أكبر كثيرا من الذكور (63%). كما أنها ـ أي رياضة المشي ـ تأتي كأهم الأنشطة الرياضية التي يرغب المواطن العماني في ممارستها مستقبلا، حيث أشارت إلى أن ثلاثة من كل أربعة مواطنين (78%) يرغبون في ممارسة رياضة المشي مستقبلا، بالإضافة إلى أن 14% يرغبون في ممارسة رياضة الجري.. وهاتان الرياضتان تتطلبان بيئات متجانسة يمكن أن تشكلا مدخلا مهما في معالجة المشكلة المشار إليه في مسح وزارة الصحة والمتعلقة بالخمول البدني، وإذا كان مفهوم النشاط الرياضي يتجه إلى ذلك النشاط الذي يتطلب مجهودا بدنيا وعضليا إضافيا، بعيدا عن مهام العمل أو الأعمال المنزلية، فإن ذلك يضعنا أمام توجّه وطني يضع رياضة المشي كأحد أهم الرياضات في التعامل مع مسألة الخمول، ومدخلا يفتح آفاقا أكبر لقراءة حجم المشكلة والأسباب المرتبطة بها وطبيعة التوجهات التي يمكن أن تصنعها المؤسسات المعنية وكيف يمكن للمواطن والمؤسسات والقطاع الخاص أن يسهم في حل هذه المشكلة، عبر البحث عن أكثر الحلول إجرائية وممكنة التحقيق في الوقت الحاصر، في ظل الموازنات والوضع المالي العام للدولة، ولكون رياضة المشي من أسهل الرياضات التي يمكن أن يمارسها أي فرد، ويمكن تحقيقها في أي مكان بالشكل الذي يحقق هدف هذه الرياضة، على أن ما أظهره مسح المركز الوطني للإحصاء والمعلومات من أن أماكن ممارسة الأنشطة الرياضة حسب ما أشارت إليه العينة، هي الحدائق والأماكن الطبيعية، حيث يمارس فيها أكثر من ثلث العمانيين رياضتهم بنسبة (35%)، وأن 23% منهم يمارسون رياضة المشي والجري في الطريق العام، ويمارسها في الممرات الخاصة بالمشي أو الركض (8%)، يطرح نقاشات حول جاهزية هذه الأماكن وكفايتها، كما أن نسبة (8%) ذاتها تطرح أيضا تساؤلات معمقة واستفسارات حول أسباب تدني مستوى الإقبال على هذه الممرات، إما لعدم اتساع انتشارها، أو أنها غير مجهزة لممارسة هذه الرياضة بشكل صحيح أو أنها تفتقد لمعايير الأمن والسلامة، أو مراعاتها لبعض العادات والأعراف المجتمعية، أو اقترابها من بعض الأماكن الخطرة كمحاذاتها للشارع العام أو وجود تقاطع لها مع إشارات ضوئية أو طريق أو دوار، أو غير ذلك.
ومع هذا التكهن الذي نعتقد بأنه لن يؤثر على قناعتنا الشخصية بأن يكون طرح موضوع توفير الممرات وأماكن لرياضة المشي، أولوية ينبغي أن تحظى بالاهتمام، فكون رياضة المشي من أكثر الرياضات انتشارا وممارسة وطموحا في ممارستها بالمستقبل، يؤكد أهمية تبني سياسة وطنية تقرأ في هذه الممرات أبعادا صحية ورياضية وترفيهية وتجميلية وغيرها، وبالتالي النظر إلى هذا المدخل كأحد المداخل المهمة في علاج مشكلة الخمول البدني، وما تطلبه ذلك من توجهات وطنية متكاملة، تتعلق بالتوسع في انتشار هذه الممرات في المتنزهات الطبيعية والحدائق وزيادة أعدادها على مستوى المناطق السكنية والولايات والمحافظات، بحيث تراعي جملة من المتغيرات الديمغرافية والسكانية وتستفيد من المؤشرات الصحية في هذا الجانب، وأن يتجه العمل إلى تنظيمها وتأهيلها بما يضمن قدرة هذه الممرات على تحقيق أهدافها المرجوة منها بشأن صحة الفرد وسلامته، وفي الوقت نفسه بما يتيح ممارسة هذه الرياضة في ظل شعور بالأمان وعدم الانزعاج وبدون أي منغصات أخرى، وإعادة تنظيمها وفق مواصفات تراعي فيها الاتساع والاستواء واختيار الأماكن المناسبة لها، وزيادة مسافاتها الطولية ومساحاتها العرضية، بحيث تصبح أماكن مهيأة للمشي بها، خصوصا في ظل ما يلاحظ من اتخاذ المواطنين للشوارع والطرق العامة أماكن للمشي لعدم تواجد مثل هذه البيئات لتحقيق هذا الغرض، وقد أشارت نتائج المسح المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن 85% من المواطنين الذي يمارسون الرياضة يمارسونها خارج إطار المؤسسات مثل الحدائق والأماكن الطبيعية، والطريق العام، وممرات خاصة بالمشي أو الركض وغيرها، في حين 15% فقط من يمارسون هذه الأنشطة الرياضية من خلال مؤسسات رياضية، كما تشير نتائج المسح إلى أن ثلاثة من كل أربعة من العمانيين تقريبا (74%)، يعتبرون أن الهدف الرئيسي لممارسة النشاط الرياضي هو المحافظة على الرشاقة والشكل العام والصحة الجيدة،
وبالتالي أن تنطلق عمليات التحسين والتطوير في هذا الجانب من خلال إعادة هندسة طبيعة هذه الممارسة والتأكيد عليها وتوعية المواطن بأهميتها وتأكيد اهتمام المؤسسات المعنية الجاد، بأن يستمر المواطن في ممارسة رياضة المشي، بشكل مستمر وليس مقصورا على فترة معينة، أو ترجع عمليات الممارسة إلى عنصر المزاج أو الرغبة أو ترتبط بطبيعة الظروف والأحوال أو بالتحجج بعدم وجود الوقت الكافي، والتي أشارت نتائج المركز إلى أن (50%)، من العمانيين الذين لا يمارسون أي نشاط رياضي، يرجع عدم ممارستها من وجهة نظرهم إلى عدم وجود الوقت الكافي (بسبب أعباء العمل أو الالتزامات الأسرية وغيرها)، وأن (25%) لا يمارسون أي نشاط رياضي بسبب وجود مشكلات صحية أو بسبب الحمل (للإناث) (56% للذكور مقابل 46% للإناث)، وهو أمر يستدعي أيضا المزيد من البرامج التثقيفية والتوعوية وبرامج المحاكاة للواقع بما يضمن تغيير القناعات السلبية لدى المواطن حول مفهوم إدارة الوقت لصالح أولوية صحة الإنسان، وتعزيز الوعي الإيجابي لديه بأن قيمة الوقت ترتبط بالمساحات التي يمكن أن تنعكس على صحته النفسية والبدنية والوقائية والتي تحققها رياضة المشي بدرجة كبيرة جدا.
عليه، فإن المطلوب في ظل نتائج هذه المسوحات، إعادة تقييم للممارستين الصحية والرياضية بشكل متكامل ومتوازن، بما يصنع منهما مسارات تحول في البناء الصحي السليم للمواطن، الذي يجنبه أمراض العصر المزمنة والتي جاءت كخلل في التعامل مع هاتين الممارستين، وبما يضع المواطن أمام خيارات وبدائل واضحة تتيح لها فرصا أكبر لممارسة الرياضة بشكل مستدام، وبالتالي نقل مبادرات (تنفيذ ممرات للمشي) التي تقوم بها وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه بمختلف الولايات أو بلديتا مسقط وظفار، أو المساهمات التي تقوم بها بعض المؤسسات كمشروعات لخدمة المجتمع، إلى التزام مواصفات معينة ومعايير تساعد المواطن والمقيم في الاستفادة القصوى من هذه الممرات بطريقة صحية تنعكس على صحتهم الجسمية والنفسية، وبالتالي أن يرتبط تنفيذ هذه المشروعات بوجود بيئة مكانية مهيأة ومنظمة ومخصصة لممارسة رياضة المشي، وقدرة هذه المشروعات الخدمية على تكوين علاقة حميمة مع مستخدميها عبر التقليل من المنغصات الحاصلة التي أفقدت بعضها حس الاستمتاع بها أو استغلالها من قبل المواطن للمشي عليها، فيتجه إلى استخدام الشارع العام كبديل لها، على أن تحقيق ذلك كما أشرنا ينبغي أن يوفر تعددا في البدائل في طريقة تنفيذ هذه الممرات وأماكن لرياضة المشي والجري، كتخصيص بعضها للذكور في المناطق المكتظة وأخرى للإناث، أو غير ذلك بما يضمن توفير بيئات رياضية وصحية نموذجية وجاذبة تدفع للاستمرار في ممارسة هذه الرياضة بشكل يومي، قادرة على تحقيق الاستقرار النفسي والصحي للمواطن وهو يمارسها برغبة، وتبقى مسألة الإكثار من المتنزهات والتوسع فيها بالمناطق السكنية وانتشارها وتهيئتها أحد البدائل المطروحة في هذا الشأن، فهل ستتحول مسألة تنفيذ هذه الممرات وأماكن المشي، من مجرد مبادرات فردية وسلوك لا يعتمد على جودة المعايير وشمولية الأهداف بقدر المساهمة المجتمعية لذاتها، أو أن تعتمد على المزاجية في عملية التأسيس واختيار الأماكن؛ إلى كونها مبنية على إطار عمل واضح يشارك القطاع الخاص بدور أكبر وفاعل فيه، كأحد الجهود التي تستهدف التقليل من تأثير شبح الأمراض غير المعدية، لتصبح الرياضة عامة ورياضة المشي خاصة ثقافة مجتمعية وسلوكا إنسانيا راقيا، هذا ما نأمل أن يتحقق … عسى أن يكون قريبا؟