ذوو الدم الحار معاكسا لذوي الدم البارد

1

 
 
أ.د. محمد الدعمي
 
هذا هو ما حدث في التاريخ كذلك: ففي الوقت الذي كانت تشهد باريس فيه ثورة عنيفة وقطع رؤوس يوميا بالمقاصل، كانت لندن تشهد فيه “ثورة”، ولكن من نوع آخر، لا قطع رؤوس ولا صدامات ولا قتال لأنها كانت “الثورة الصناعية”. وفي كلتا الحالتين حدثت تغيرات جذرية نتيجة للثورتين “الفرنسية” و”الصناعية”: فقد غيرتا مسار التاريخ، بكل تأكيد.
كلنا نتذكر ما درسناه في صبانا للتمييز بين نوعين من المخلوقات البيولوجية (علم الحيوان)، إذ عرفنا أن هناك مخلوقات تمتاز بالدم البارد، وأخرى بالدم الحار، وأن لكلا النوعين أنماط حياة وسلوك مختلفة. ولكن لم يدر في ذهني وقتذاك قط أن ألاحظ أن في مملكة الإنسان، توجد أقوام ساخنة الدم، وأخرى فاترة أو باردة الدم.
وإذا كنا هنا، في الشرق الأوسط، نتميز بطبيعة ساخنة وذائقة حادة تطبع أنماط سلوكنا على نحو عام، فإننا غالبا ما نخص الأقوام التي تعيش في الأقاليم الشمالية الباردة المحيطة أو القريبة من القطب الشمالي بنظرة مختلفة باعتبار أنهم “باردون”، لا ينفعلون بسرعة مثلنا، فإن في كلتا الطبيعتين ميزات، سجايا ومثالب.
ينطبق هذا التعميم، بشكل خاص، على الفروق بين الإنجليز وجيرانهم الفرنسيين: ففي الوقت الذي تشهد فيه باريس وسواها من الحواضر الفرنسية انتفاضة عنيفة ضد الحكومة، تذكرنا بما حدث يوم 14 تموز ـ يوليو قبل قرون بعد انهيار سجن الباستيل وانطلاق الثورة الفرنسية، يشهد الإنجليز الآن تغيرا يمتاز بالهدوء وبالتدريجية التي لا تصل حد أي نوع من أنواع العنف. هذا هو ما حدث في التاريخ كذلك: ففي الوقت الذي كانت تشهد باريس فيه ثورة عنيفة وقطع رؤوس يوميا بالمقاصل، كانت لندن تشهد فيه “ثورة”، ولكن من نوع آخر، لا قطع رؤوس ولا صدامات ولا قتال لأنها كانت “الثورة الصناعية”. وفي كلتا الحالتين حدثت تغيرات جذرية نتيجة للثورتين “الفرنسية” و”الصناعية”: فقد غيرتا مسار التاريخ، بكل تأكيد.
هذا هو جوهر الفرق بين الأقوام التي تقطن أقاليم دافئة (جنوبا أي أقرب إلى خط الاستواء)، وتلك التي تستقر في أقاليم باردة أو أقرب إلى القطب الشمالي. حتى في الفنون والآداب، امتازت فرنسا على بريطانيا بطبيعة منتجها الثقافي الأكثر دفئا ورومانسية، وتنطبق هذه الحال على الفرق بين المانيا الباردة وإيطاليا الدافئة. قد يكون هذا هو سر إخفاق الفتوحات العربية الكاسحة في عبور سلسلة جبال “البارنيز” للامتداد من إسبانيا شمالا إلى فرنسا!
بيد أن مصداقية ملاحظتي أعلاه تتجلى اليوم على نحو واضح بين العنف والحرائق والصدامات في فرنسا وبين التغيرات البطيئة والتدريجية التي تقود رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بمعية البرلمان، حركتها بكل حكمة وبصيرة بعيدة النظر.

التعليقات معطلة.