باختصار: حافلة الأمل

4

زهير ماجد

هنالك دائما مكان للأمل، الأنسنة مادة حياة لانتصار الخير، دون أن يعني أن الشر زائل تماما كون أفاعيله تملأ الأرض أيضا .. مثل هذا التوجه يحتاج لأفراد رسموا سلفا علاقة وطيدة مع الإنسانية، أو لمنظمات إعانة لها فكر سديد في المساعدة، أو حكومات تتنبه إلى حياة شعبها ولا تنساه في غمرة مسؤولياتها.
ربما لا يخطر على بالنا اسم أنيس البياتي الذي قرر أن ينصر ما يمكن من أطفال العراق على الأمية، فقرر تحويل حافلة إلى مدرسة متحركة، الهدف منه تعليم الأطفال الذين لم يتسن لهم دخول المدرسة لأسباب، منها عدم قدرة الأهل على تعليمهم أو اضطرارهم للعمل لإعالة أهاليهم .. وهو لهذه الغاية جهز الحافلة بكل ما يحتاجه الطفل، فكان له ما أراد حيث تخرج عدد من الأطفال خلال العام الماضي، وها هي الدفعة الثانية منهم باتت جاهزة للتخرج.
من جهتي أراه حدثا بقيمته المعنوية والاجتماعية والإنسانية، في العهد الماضي، فرض صدام حسين تعليما إلزاميا ومجانيا من الصفوف الأولى حتى التخرج من الجامعة إضافة إلى إعطاء الطلاب مصروفات جيب كما يقال، انخفضت الأمية إلى أقل من ثلاثة بالمئة وقيل في بعضها إنها زالت تماما من المجتمع العراقي .. اليوم عادت مشكلة الأمية لتطرق باب الأطفال خصوصا فتجاوز العشرة بالمئة وربما أكثر، وضمن ظروف العراق وما آلت إليه أوضاعه منذ الاحتلال الأميركي له وما قبله من حصار جائر، صارت الضرورة استعادة دور العراق العلمي والذي وصل في بعضه إلى إنشاء جيش من المبدعين المخترعين صاروا بالآلاف، وكاد العراق أن يصل إلى تخمة منهم، إضافة إلى فرص التعليم التي توفرت في شتى أنحائه دون تمايز بين القرى والمدن والأرياف.
من المآسي التي لم تعد تذكر، أن العقول التي أنشأها صدام حسين وقعت في أزمة لا مثيل لها بعد الاجتياح الأميركي، فتعرض قسم منهم إلى الاغتيال حين أصر على البقاء في العراق، وأما من آثر المغادرة فنجا، بعد أن صب كل طاقته العلمية لدى عالم الغرب .. ويقال إن إسرائيل وحدها قتلت العشرات من المتفوقين في العلوم وخصوصا في الفيزياء النووية، وكلنا يعلم أن العراق كان يتجه نوويا وأنشأ لذلك مفاعله “تموز”، والذي قامت إسرائيل بقصفه وتدميره.
كم يحتاج عالمنا اليوم وخصوصا في الأقطار العربية التي تعرضت للمؤامرات وتحولت حياة أبنائها إلى صعوبة الاستمرار في التعلم، سواء في الداخل أو الخارج، إلى حافلات أمل ثابتة ومتحركة وانكباب على التعلم ليل نهار كي تعود دور الحياة إلى ما كانت عليه، ففي سوريا والعراق وحتى في ليبيا، تسنى في العهود الماضية تحقيق كفاية تعليمية لكل أفراد الشعب وكله بالمجان .. وليس ما يضمن ثبات المجتمع على قاعدة تقدمه سوى التنبه إلى التعليم .. وأعتقد جازما، أن جزءا مهما من الحرب على تلك الدول، يعود لإفقار شعوبها تعليميا وعلميا مما يشكل انحطاطا اجتماعيا وعودة بالحياة إلى الوراء، في الوقت الذي ذكر فيه صادق جلال العظم، أن جامعة دمشق خرجت في نهاية الأربعينيات ما يقارب أربعة آلاف طالب، في حين لم تخرج بريطانيا في ذلك الوقت سوى ثمانمئة.
صحيح أن الهم الأكبر لتلك الأقطار العربية إعادة بناء ما تهدم وخصوصا سوريا، لكن صدقوني، أن ما تهدم من نفوس وخصوصا في مجال دراستها يحتاج إلى تفكر وتدبير قبل أي بناء آخر، وإلا ما نفع مجتمع جله من الأميين، والأمية اليوم عار وتخلف واستباحة لشرعة التقدم.

التعليقات معطلة.