خميس التوبي
ما صرح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ”أننا لا نريد سوريا، أوباما سلمها منذ سنوات برفضه تجاوز الخط الأحمر.. وأنه لا يوجد بها سوى الرمل والموت” فيه اعتراف صريح بحقيقة الوضع الأميركي داخل سوريا، وأنه ـ إلى جانب غير شرعي ومخالف للقانون الدولي وللشرعية الدولية ـ يواجه استعصاء لتحقيق الأهداف، جراء التحول الميداني السريع الذي مالت كفته لصالح الدولة السورية، ولقوة الحضور العسكري والدور الفاعل لروسيا الاتحادية وغيرها من حلفاء سوريا، وكذلك فيه قناعة باستحالة الإقدام على أي عمل عسكري عدواني في ظل التنامي العسكري الضخم، سواء لروسيا الاتحادية أو للدولة السورية بجوار بقية حلفائها، فضلًا عن أن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكيان الاحتلال الإسرائيلي وغيرها قد جربت أكثر من مرة العدوان على سوريا، ولم يحقق ما تريده من نتائج، بل على العكس من ذلك سوغ لروسيا أن تضاعف حضورها العسكري، وتدخل أسلحة نوعية متطورة لحماية سوريا ومساعدتها. وحين يؤكد ترامب أنه لا يوجد في سوريا سوى “الرمل والموت” فإنه يعلم تمامًا طبيعة الوضع المعقد والمتداخل الذي أسهمت بلاده فيه، سواء بدعمها المكون الكردي ودغدغة نزعة الانفصال التي ستحقق بها واشنطن تقسيم سوريا، أو بدعمها التنظيمات الإرهابية، أو بدعمها القوى الإقليمية ذات النزعة الاستعمارية والتآمرية، وبالتالي “الرمل والموت” يلخص ما ستكون عليه الصورة بعد انسحاب القوات الأميركية غير الشرعية من سوريا ـ هذا إن تم ـ والتي يبدو أن واشنطن وصلت إلى يقين بأنها أحكمت الشراك للإيقاع بين جميع الأطراف، سواء تلك التي تصنفها واشنطن بالمعادية، أو تصنفها بالحليفة، فتكتفي هي بتقديم الدعم ومعها حلف شمال الأطلسي لبعثرة الأوراق وإحكام المقتلة بين تلك الأطراف، وتعمل في الوقت ذاته على متابعة الوضع من الأراضي العراقية وتحديدًا غرب العراق الذي أعادت فيه القوات الأميركية انتشارها هناك.
وعلى الرغم مما يفهم منه بأن هناك ترتيبات تعدها إدارة ترامب للانسحاب بالتنسيق مع حلفائها “كيان الاحتلال الإسرائيلي” ومع من تصفهم تارة بـ”حلفائها” وتارة أخرى بـ”أصدقائها” من قوى الإقليم والمنطقة، إلا أن قرار الانسحاب يبدو ـ حتى الآن ـ أنه قرار شفهي ولا توجد على الأرض الشواهد التي تؤكده، وقد أكد الرئيس ترامب أنه لم يحدد جدولًا زمنيًّا لتنفيذ الانسحاب، وربما السبب هنا عائد إلى معطيات يرى الأميركي أنها قد لا تخدم ما يخفيه من وراء الانسحاب، وعلى الرغم من قناعة الأميركي بأن بقاءه في سوريا لن يطول مهما حاول التذرع من أجل تكريس البقاء، والرهان على الأحصنة المعطوبة فإن غاية ما يمكن أن ينجزه هو تأخير الدولة السورية عن مواصلة إنجاز نصرها الكامل على المخطط الإرهابي التكفيري التدميري، وعرقلة أي حل سياسي يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه، ويجعل من سوريا دولة مستقرة وموحدة وقوية وذات سيادة.
حين اتخذ الرئيس ترامب قرار سحب قوات بلاده من سوريا ـ رغم يقينه التام بأن وجودها غير شرعي ومخالف للقانون الدولي وللشرعية الدولية ـ كان يراهن على بعض القوى الإقليمية ومن معها من التنظيمات الإرهابية لتقود دفة المخطط بعيدًا عن الدور الأميركي المباشر وتتكفل بتحقيق ما هو مخطط له من استهداف سوريا؛ أي تقسيمها إلى كيانات طائفية. كما أن الولايات المتحدة حين اقتنعت بحالة الاستعصاء عما تريده أخذت تتجه نحو تسليم وكلائها وعملائها في الإقليم ليتولوا بالنيابة عنها تقسيم سوريا وتفتيتها واغتصاب واستعمار من الأراضي السورية ما يمكنهم استعماره والاستيلاء عليه، وبذلك يتحقق مخطط التقسيم والتفتيت، علاوة على الدفع بهم نحو استنزاف الدولة السورية وحلفائها، بحيث تتكفل الولايات المتحدة بعملية تقديم الدعم اللوجستي والسياسي.
وهذا المعطى يعيد بالذاكرة إلى عملية تدمير ليبيا، حيث كانت الولايات المتحدة تقود الدفة من الخلف، تاركة حلفاءها وعملاءها يقومون بمهمة التدمير، فلم تخسر جنديًّا واحدًا، سوى صواريخ كروز التي أطلقتها وبتمويل من البترودولار، حيث من المحتمل أن توكل إلى حلف شمال الأطلسي مهمة إسناد الأطراف الوكيلة والبديلة للوجود الأميركي في شمال سوريا وشرق الفرات.
لذلك، لم يكن القرار الأميركي بانتشار القوات الأميركية في غرب العراق وحتى الحدود السورية إلا من أجل تقديم الدعم، وعدم الرغبة في مغادرة سوريا، وإنجاز مخطط عزل سوريا عن جوارها العراقي، وبالتالي تقطيع أواصر المحور الممتد من إيران والعراق وحتى سوريا فلبنان.
على أن إعلان ترامب عدم تحديده جدولًا زمنيًّا لتنفيذ انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية، بالإضافة إلى الجولة المكوكية التي يقوم بها كل من جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي، ومايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة، جاء إثر تطورات ميدانية تمثلت في دخول الجيش العربي السوري مدينة منبج وسط ترحيب من بعض المكون الكردي، وبدء روسيا الاتحادية عمليات عسكرية دقيقة ضد فلول التنظيمات الإرهابية في محافظة إدلب، ما يعني إمكانية انهيار ما تريده واشنطن من قبل وكلائها وعملائها في سوريا في شمالها وشرقها، وبالتالي لا بد من تأخير الانسحاب وتنظيم تنفيذه ريثما يتمكن الوكلاء والعملاء من تنظيم صفوفهم وقوتهم وتثبيت ركائزهم.
ما يمكن الخلوص إليه من كل هذه المراوغات والمماطلات والجولات، هو أن معسكر التآمر والعدوان على سوريا لا يزال يسابق الزمن لمنع الدولة السورية من إنجاز نصرها الكامل على الإرهاب، وإجهاض أي حل سياسي لا يتوافق مع الأجندات المشبوهة للغرب الاستعماري ولبعض قوى الإقليم ذات الطموحات الاستعمارية والتخريبية.