عبدالله ناصر العتيبي
يتخذ الجدل في لبنان مطلع هذا العام أشكالاً أكثر سميّة وأشد سواداً من المعتاد بسبب القمة العربية الاقتصادية المزمع عقدها في بيروت قريباً. ما يحدث هذه الأيام من شد وجذب بين الفرقاء اللبنانيين يختلف بالكلية عمّا كان يحدث قبل إحراق العلم الليبي واستبداله بعلم «حركة أمل» في العاصمة بيروت. يبدو أن الأمور تخرج من دائرة «المقدور عليه» و«القابل للسيطرة» إلى فضاءات غير معروفة
الحسابات.
في الأشهر الثمانية الماضية التي تلت الانتخابات النيابية، كان الجدل يدور تحت سقف «صراع البقاء». كان «جبران باسيل» صهر الرئيس، ووزير الخارجية و«نجم المرحلة» يصنع الأزمة تلو الأزمة ليضمن حضوره في الصورة. وكان الفرقاء الآخرون – خصومه وأصدقاؤه – ينفعلون ويتفاعلون مع الرجل من أجل الهدف نفسه.. البقاء لا أقل ولا أكثر.
يظن الزعماء اللبنانيون الذين نعرفهم بأسمائهم ووجوههم أن الحياة السياسية الطبيعية التي تحرك اقتصاداً مستقراً ومنتظماً، هي العدو الأول لهم. يظنون مجتمعين أن وجوههم التي نعرفها وأسماءهم التي نحفظها عن ظهر قلب، ستبدأ في التلاشي شيئاً فشيئاً عندما يحل القانون مكان الفوضى، والاقتصاد المنتج بدلاً عن اقتصاديات الطوائف، والإدارة بالمجموع بدلاً عن الإدارة بالجماعة. يظنون أنهم ذاهبون للنسيان في حال تغلبت الإرادة الجماعية على مشيئة الفرد وقدسيته، الدينية أو العلمانية، لا فرق، إذ تتشابه الأضداد في لبنان الجميل المعاصر!
يصنع الزعيم قضيته الخاصة. ثم يتبناها تحت مفاهيم دينية أو وطنية منحوتة بعناية، ويقدمها للجماهير كتعويذة خلاص. تتعلق الجماهير البائسة في التعويذة ما شاء الله لها أن تعْلق، ويظل الزعيم ينفخ في المسائل الخلافية ما شاءت له قدرته أن ينفخ! زعيم وقضية قائمة وخلاف مستعر وتباين وازن وجماهير تهتف ليل نهار!! أي «نعيم بقاء» هذا؟!
الكثير من الزعماء اللبنانيين خلال العقود الثلاثة الماضية كانوا يختلقون المشاكل للحفاظ على وجودهم ومصالحهم الخاصة، لكن هذه المشاكل كانت في غالب الأحيان من النوع «المقدور عليه» و«القابل للسيطرة» خوفاً من ترقّيها إلى اشتباكات مسلحة، وهذا ما لا يريده اللبنانيون جميعاً، لأن هذه الـ «تنزكر وما تنعاد» ستسلب مكتسبات الجميع. السياسي سيفقد نعيم السياسة، والمواطن سيفقد جنة الأمن.
كانت الكتل والتيارات براغماتية بامتياز، تقدم مصلحة المجموعة على الوطن. لكنهم على رغم ذلك كانوا وما زالوا يلعبون جميعاً في الفناء الداخلي للوطن باستثناء «حزب الله»، الذي كان يخلق مشاكله الخاصة ليُبقي تراب بلده مرهوناً لمشيئة أجنبية!
هذا ما كان بالأمس، لكن اليوم يبدو أن الأمور تسير في طريق آخر، فالمشاكل التي كان هدفها الرئيس تعطيل البلد من أجل تشغيل المصالح الخاصة لبعض الشخصيات المختطفة للبلد، بدأت تتفجر ناقلة لهبها ومساميرها وقطعها الحديدية إلى خارج الحدود.
«حركة أمل» التي لم يكن لها وجود واضح في الفترة الأخيرة، استغلت تنظيم لبنان للقمة الاقتصادية العربية، لتقول انها ما زالت تتمتع ببعض القوة و «الزعران» القادرين على إنزال الأعلام وحرقها! نبيه بري الزعيم التاريخي للتشيّع العلماني في لبنان، لم يكن راضياً فيما يبدو على استئثار المستقبل والتيار الوطني الحر وحزب الله، بالخلافات خلال الفترة الماضية، الأمر الذي جعل منه رقماً زائداً غير ذي تأثير في «الحراكات» التي لم تكن تؤدي لنتائج بالطبع.
وجبران باسيل وتياره، ومن خلفهما الرئيس عون (الذي هو رئيس لكل اللبنانيين!) يظنون أنهم بالإصرار على دعوة سورية على رغم تعليق عضويتها المؤقت في جامعة الدول العربية، سيقدرون على هزيمة خصومهم المحليين، وإبعادهم عن التأثير في القرار السياسي اللبناني في السنوات المقبلة.
أما حزب الله فمن المتوقع أن يستغل هذه التحركات التي تتجه من داخل البلد إلى خارجه، لإشعال الحرب الأهلية من جديد. حزب الله يعرف أن الطريق الوحيد لسيطرة إيران على لبنان هو بتفريغها أمنياً وسياسياً، وهذا أمر لا تحدثه المشاكل القابلة للسيطرة والمقدور عليها التي تخرج بين الحين والآخر بين الخصوم المحليين.
لنر في الغد من يشعل الحرائق ومن يطفئها؟
* كاتب سعودي.