محمد علي فرحات
جمع دونالد ترامب أمواله ويجمعها من أعماله الناجحة في قطاع العقارات، وهذا النوع من الأعمال يزدهر في المدن الكبرى وفي المشاريع الرابطة بين تلك المدن. لكن سياسة ترامب الرئيس بعيدة عن الأماكن التي ازدهرت وتزدهر فيها استثماراته. إنها تنتمي إلى الأرياف المعزولة حيث يندر بين السكان من يحصل على جواز سفر. إنهم مواطنون مقيمون في مزارعهم وقراهم ومدنهم الصغيرة، ولا تحتاج مصادر عيشهم الانتقال إلى أماكن بعيدة، حتى في الولايات المتحدة نفسها، كي لا نقول السفر عبر المحيط إلى أوروبا القديمة، أو عبر المحيط الآخر إلى اليابان والصين وسائر الشرق الأقصى حيث الازدهار الأحدث والمفاجئ، وحيث شعوب وثقافات تبدو بالنسبة إلى مؤيدي دونالد ترامب أشبه بسكان الفضاء المجهولي الأشكال واللغات.
هذا رئيس دولة عظمى، بل رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم حتى الآن، على رغم جهود روسيا والصين لمشاركة الولايات المتحدة في قيادة العالم، ولا ننسى هنا خيبات أوروبا الغربية مهد النهضة والحداثة والأم الشرعية للولايات المتحدة التي تؤدي في عهد دونالد ترامب دور الابن العاق.
ونتصور، عن حق، أن ترامب يعلّق في غرفة نومه لائحة وعوده الانتخابية التي أوصلته إلى البيت الأبيض، وهي وعود موجّهة إلى الريفيين الأميركيين، وتحديداً المعزولين عن سائر الأمم، وحين يكتب تغريدة الصباح من موبايله يكون ذلك في سياق تلبية الوعود الانتخابية تلك، وأحدثها بناء جدار عازل بين الولايات المتحدة والمكسيك. لكن تغريدات سيد البيت الأبيض تتحول إلى لعبة مزاجية حين تتناول شأناً دولياً بعيداً من دائرة الانعزال الأميركي حيث ملعبه الأثير. والأحدث في هذا المجال تهديده بتدمير تركيا اقتصادياً إذا اجتاحت مناطق الأكراد السوريين، لكنه بعد أقل من 24 ساعة تحدّث هاتفياً مع الرئيس التركي واتفق معه على تعزيز الروابط الاقتصادية. الحديث الهاتفي خططت له إدارة البيت الأبيض ونفّذه الرئيس حرفياً. وكانت طمأنة أردوغان على اقتصاد بلده بمثابة محو لتغريدة الصباح الترامبية، وبعد ذلك المحو قدّم الرئيس الأميركي هديته لتركيا: منطقة عازلة في الشمال السوري. إنه مطلب قديم قدّمه أردوغان لباراك أوباما، وهنا اللعبة: كل ما كان مرفوضاً من أوباما هو موضع ترحيب لدى ترامب، أليس من وعوده الانتخابية تدمير ما وافق عليه أوباما وتنفيذ ما كان يعارضه؟
ولن يكون الرئيس التركي في مأمن من ضربة جديدة يوجّهها ترامب ذات تغريدة في ذات صباح. ومع الرئيس التركي، الشريك في حلف الناتو، أصدقاء الولايات المتحدة قبل خصومها، أيديهم على قلوبهم من مزاجية الرئيس ويركنون دائماً إلى الإدارة الأميركية التي تصوّب عمل الرئيس بعيداً من أقواله المتناقضة وغير المعقولة.
وترامب، من حيث المبدأ، رئيس الأميركيين جميعاً، البيض والملونين. هو يعرف ذلك جيداً وقد أقسم على المحافظة على أميركا كلها، لكن عنصرية الرجل المكبوتة تتنفس في ثنايا الكلام وفي بعض التصرفات. ولعل موقفه الحاد من طموح الهجرة لدى كثيرين من أهالي أميركا الوسطى والجنوبية يتعدى الناحية القانونية إلى رفضه لون وثقافة هؤلاء. ولا تغيب فلتات لسان سيد البيت الأبيض تجاه شعوب في آسيا تعتبرهم مشاريع أعداء، في حين يتقدم هؤلاء إلى الولايات المتحدة في صورة أصدقاء يتعاونون من أجل سلام العالم وازدهاره.
رئيس الدولة العظمى يبدو حائراً بين طبيعة منصبه وبين مزاجه الذي يليق بعمدة في قرية أميركية جنوبية. وقد يصل بنا الكلام إلى القول إن دونالد ترامب يضمر في نفسه ويطلق في فلتات لسانه كلام الجندي الجنوبي الأخير في الحرب الأهلية الأميركية التي انتهت بهزيمة العنصريين الجنوبيين وتحرير العبيد وولادة أميركا الحرة وحامية الحريات.
ومأزق الرئيس في ترجّحه بين الجندي الجنوبي والرئيس الشمالي.