اخبار سياسية عالمية

“ماك يسوع” في فلسطين: استخدام الفن السيء لتبييض جرائم “إسرائيل”

لوحة “ماك يسوع” وهو معلق على الصليب في هيئة المسيح بمتحف حيفا
خطت أقدام المئات من المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين إلى متحف حيفا للفنون يوم الجمعة الماضي للاحتجاج على عرض أعمال فنية مختلفة تستخدم رموز الثقافة الجماهيرية ومنتجات الشركات لتصوير أيقونات مسيحية، كما تم إطلاق عريضة على الإنترنت للمطالبة بإزالة أعمال الفنان الفنلندي جاني لينونين، التي تضمنت دمى رونالد ماكدونالد المصلوب وشركة ماتيل – كين وباربي – التي تمثل يسوع المسيح والسيدة مريم العذراء.

على الرغم من أن لينونين قد صنع لنفسه اسمًا كفنان احتجاجي مناهض للرأسمالية، فإن الأعمال الفنية التي اختار عرضها في معرض “السلع المقدسة” المقام منذ الـ4 من أغسطس/آب العام المنصرم في متحف حيفا أخطأت الهدف، خاصة عندما اختار أن يصلب مهرج شركة “ماكدونالدز” العالمية وهو باللباس الأصفر والقبعة الحمراء، محاكيًا صلب السيد المسيح.

وفي إبداعات مسيئة مثل “ماك يسوع”، لم يقدم الفنان في أعماله بمعرض “السلع المقدسة” أكثر من مجرد إعادة صياغة غير ملهمة لنقد قرون من العلاقة بين الدين والرأسمالية، والأهم من ذلك، أنه تجاهل تمامًا السياق السياسي الذي يتم فيه عرض هذه الأعمال الفنية، مما سمح للمؤسسة الإسرائيلية باستغلال غضب السكان المحليين المعادي للمعرض لتبرئة القمع والتهديدات التي يواجهها المسيحيون الفلسطينيون في الوقت الراهن.

الرأسمالية والدين: قصة قديمة

يسعى تمثال “ماك يسوع” للفنان الفنلندي، شأنه في ذلك شأن الأعمال الفنية الأخرى في المعرض، إلى إظهار كيف أصبحت المنتجات الاستهلاكية “سلعًا مقدسة”، وهي سلع تُستثمر بسلطة القوة الدينية والرمزية، ومع ذلك، لا يوجد ما هو استفزازي عن هذا النقد، فقد كان انتقاد تقديس الرأسمالية ومفهومها العام، وهو تسويق الدين، مستمرًا منذ قرون عديدة وحتى الآن.

أحد الأعمال الفنية يصور مهرج شركة “ماكدونالدز” العالمية وهو باللباس الأصفر والقبعة الحمراء، محاكيًا صلب السيد المسيح

ففي القرن الـ18، استخدم الاقتصادي آدم سميث في نظرية المشاعر الأخلاقية (1759) استعارة “اليد الخفية” لرسم العلاقة الشائكة بين المنظومات الدينية والمنظومات الاستهلاكية، وفي كتابه “ثروة الأمم” وكتب أخرى، قال سميث: “الفرد الذي يقوم بالاهتمام بمصلحته الشخصية يساهم أيضًا في ارتقاء المصلحة الخيرة لمجتمعه ككل من خلال مبدأ اليد الخفية”.

من عجيب المفارقات هنا أن الطبيعة التاريخية للعمل الفني للينونين سُلط الضوء عليها أيضًا في تعليق القائمين على المعرض، وكما جاء في نشرة المتحف، حيث لوحظ أنه “في أواخر القرن التاسع عشر، توَّج الكاتب الفرنسي إميل زولا عملية الاستهلاك العالمية كدين جديد، حيث استبدلت طقوس دينية في الكنائس بمراسم الشراء بالمراكز التجارية الكبرى”.

لكن إعادة صياغة النقد القديم للتواطؤ بين الدين والرأسمالية، مثلما كان عاديًا كان يمكن أن يكون له تأثير لو أن أعمال لينونين المزعجة أخذت في الاعتبار السياق الذي سيتم عرض هذه الأعمال الفنية فيه، لكن السياق المحلي كان واضحًا على عقل الفنان عندما قرر تحويل “دمية كين” إلى يسوع، ففي حين كان الصندوق الذي عبأه بالدمية مزركشًا بالكلمة العبرية ليسوع (يشوع)، ومع ذلك، لم يكن هناك تعليق في أي من أعماله الفنية عن واقع “إسرائيل” واحتلالها لأرض فلسطين واضطهاد السكان الفلسطينيين.

سمح فن لينونين للسلطات الإسرائيلية باستغلال احتجاجات السكان الأصليين بشأن أعمال لينونين الفنية واستخدام الجدال لإخفاء سياسات الدولة العنصرية والتمييزية وسوء معاملة المسيحيين الفلسطينيين

في أيدي فنان مختلف متناغم مع الحقائق الوحشية للسياق المحلي، كان من الممكن أن تقدم صورة مهرج ماكدونالدز المصلوب تعليقات راديكالية على النضال الفلسطيني من أجل الحرية، كما كان من الممكن أن يسلط الضوء بسهولة على الجهود المتضافرة لكل من المؤسسات الدينية الأمريكية، لا سيما الإنجيليين، وثقافة الشركات الأمريكية لتقديم الدعم المادي والروايات الإسطورية التي تضفي الشرعية على السياسات الإسرائيلية الاستعمارية الرأسمالية.

لكن لينونين فوًّت هذه الفرصة، والأهم من ذلك، أن “فنَّه السيء” سمح للسلطات الإسرائيلية باستغلال احتجاجات السكان الأصليين بشأن أعمال لينونين الفنية واستخدام الجدال لإخفاء سياسات الدولة العنصرية والتمييزية وسوء معاملة المسيحيين الفلسطينيين.

استمرار تبييض النكبة

كما تدخلت قوات الشرطة وتصدت للمتظاهرين والمحتجين الفلسطينيين، تدخلت أيضًا وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف التي ركبت موجة عمياء، وأطلقت أعنّتها لرسالة ممجوجة بكلام باطل يراد به باطل، ولم تدخر أي وقت في إدانة المعرض الفني باسم “القيم الديمقراطية” و”التسامح مع التقاليد الثقافية والدينية الأخرى”، ودعت إلى إغلاق المعرض.

يشكل المسيحيون نسبة صغيرة من سكان “إسرائيل” العرب ويقولون إنهم يواجهون تحديات عديدة

وفي رسالتها إلى مدير المتحف، قالت ريغيف: “القيم التي تميزنا كدولة يهودية وديمقراطية تلزمنا باحترام المشاعر الدينية لجميع مواطني “إسرائيل”، المسلمين والمسيحيين والدروز وغيرهم”، وأصرت أن عدم احترام الرموز المقدسة “قد يؤثر على النسيج الرقيق لمجتمعنا الديمقراطي، الذي يحترم المشاعر الدينية للآخرين باعتبارها واحدة من أكثر قواعده تنويرًا”.

هذا النداء من أجل التسامح لا ينحصر فقط في سياسات “إسرائيل” العنصرية والمثيرة للانقسام، بل أيضًا من خلال الأعمال السابقة التي قامت بها ريغيف نفسها، ففي مايو 2012، على سبيل المثال، حظت ريجيف باهتمام شعبي غير مرغوب فيه بعد أن وصفت طالبي اللجوء السودانيين بأنهم “سرطان في جسد الأمة”، واعتذرت ريغيف لاحقًا لمرضى السرطان الإسرائيليين بسبب هجومها على المرض، لكنها لم تشعر أبدًا بالحاجة إلى الاعتذار للبشر الذين شبهتهم بمرض قاتل.

كانت إدانة ريغيف للمعرض محاولة لتضليل النكبة المستمرة وتقديم “إسرائيل” كدولة تحترم الهويات الدينية المتنوعة لجميع مواطنيها وسكانها، بمن فيهم المسيحيون

وفى وقائع كثيرة أخرى لم تُخف الوزيرة الإسرائيلية العنصرية ضد العرب والفلسطينيين، فقد اتخذت من الفن والموضة منصة أخرى تبعث برسائل مباشرة تحمل قدرًا من الاستفزاز والعنصرية ضد الدولة الفلسطينية، وفي مايو 2017، ظهرت ريغيف فى حفل افتتاح مهرجان كان السينمائي بفستان يحمل صورًا لمدينة القدس وما بها من رموز تاريخية ودينية على رأسها مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

إذًا، ما الذي كان وراء دعوة وزير الثقافة غير المعهودة إلى التسامح والقلق الجديد بشأن حقوق ومشاعر مجتمعات السكان الأصليين في “إسرائيل”؟ كانت إدانة ريغيف للمعرض محاولة لتضليل النكبة المستمرة وتقديم “إسرائيل” كدولة تحترم الهويات الدينية المتنوعة لجميع مواطنيها وسكانها، بمن فيهم المسيحيون.

“إسرائيل” ليست صديقة للمسيحية

منذ عام مضى، حذر بطريرك القدس الأرثوذكسي ثيوفيلوس الثالث، في مقال رأي بصحيفة “الجارديان” البريطانية، من أن السياسات الإسرائيلية تدفع المسيحيين الفلسطينيين إلى الخروج من الأرض المقدسة، وأوجز الجهود التي يبذلها الكنيست الإسرائيلي لإبعاد المسيحيين الفلسطينيين عن أراضيهم وعن حقوق ملكيتهم من خلال مشروع “أراضي الكنيسة” الذي يضع حدًا لسيادة الكنيسة على أراضيها في مدينة القدس القديمة.

حين كانت ريغيف تتحدث عن “النسيج الديمقراطي” المزعوم للمجتمع الإسرائيلي، كانت الشرطة الإسرائيلية تستخدم قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع لتفريق حشود المتظاهرين بالقرب من المتحف

كما أشار ثيوفيلوس الثالث إلى أنشطة جماعات المستوطنين المتطرفين في القدس وحولها التي تزعزع استقرار الوضع الراهن فيما يتعلق “بالحماية والوصول” للمواقع المقدسة في المدينة، ويشتبه في أن العديد من هؤلاء المستوطنين المتطرفين نفذوا هجمات على الكنائس والممتلكات المسيحية الأخرى، وقاموا بتدنيس وتخريب الكنائس والأديرة والمواقع المقدسة ورش كتابات الكراهية عليها، وفي معظم هذه الحالات، لم تعتقل السلطات الإسرائيلية أي مشتبه بهم، ورفضت هذه الحوادث على أساس أن الجناة غير معروفين.

هذه الهجمات على الكنائس والممتلكات المسيحية، التي تعود إلى النكبة، تستهدف أيضًا المسيحيين في الضفة الغربية، فقد داهمت القوات الإسرائيلية، على سبيل المثال، ديرًا معروفًا في بيت لحم وحاولت مصادرة أراضيه لمواصلة بناء جدار الفصل العنصري في وادي كريمزان الذي يقع على خط التماس بين الضفة الغربية والقدس.

من المهم أن نلاحظ أن القوات العسكرية الإسرائيلية تساعد وتحرض المستوطنين المتشددين على تدنيسهم لمواقع مسيحية، وتقدم لهم الحماية التي يحتاجون إليها عندما يهاجمون هذه المواقع لأداء الطقوس الدينية هناك.

كان الزجاج الملون وتمثال العذراء مريم من بين المواد التي دمرت في هجوم على كنيسة القديس ستيفن في بيت جمال غرب القدس

وتحد قوانين الدولة العنصرية وسياسات الإغلاق وجدار الفصل العنصري من وصول المسيحيين الفلسطينيين إلى الأماكن المقدسة في القدس، مما يفسد حريتهم الدينية ويعرقلهم عن ممارسة عقيدتهم، هذه السياسات، كما يحذر ثيوفيلوس الثالث، تهدد “الوجود ذاته للمسيحيين في الأرض المقدسة”.

لهذه الأسباب يجب ألا تخدع الدعوات المشينة إلى التسامح والتفاهم من شخصيات إسرائيلية مثل ريغيف أي أحد في الاعتقاد بأن مستعمرة المستوطنين الرأسمالية؛ أي “إسرائيل”، تهتم بالحساسيات الدينية للمسيحيين أو المسلمين الذين يعيشون هناك، وغني عن القول، أنه حين كانت ريغيف تتحدث عن “النسيج الديمقراطي” المزعوم للمجتمع الإسرائيلي، كانت الشرطة الإسرائيلية تستخدم قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع في تفريق حشود المتظاهرين بالقرب من المتحف.

أما مسرحية “ماك يسوع” من لينونين وغيرها من الأعمال الفنية في معرض “السلع المقدسة” فهي غير معهودة في فن معارضته المناهض للرأسمالية الأخرى ومدرسة العصيان التي يديرها، في هذا المعرض، يفوِّت فرصة مهمة لنقد الجوانب الخبيثة للاستغلال الرأسمالي من خلال المشاركة الحرجة مع هياكل العنف عدم المساواة الاجتماعية التي تشكل الدولة الإسرائيلية الرأسمالية الاستعمارية السلطوية.