فيلسوف ألماني ضد أساسيات الحداثة

1

 
محمد سيد رصاص
 
أهداني الصديق الدكتور عصام سليمان كتاباً قام بترجمته عن الألمانية بعنوان: «معلم ألماني: هايدغر وعصره» (تأليف روديغر سافرانسكي، صادر بالألمانية عام 1994، الترجمة العربية صادرة في سلسلة «ترجمان» عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
 
 
يمكن القول إن هذا الكتاب سيكون المرجع الأساسي عن مارتن هايدغر (1889-1976) باللغة العربية كسيرة حياة وعرض أفكار، يوازي كتاب إميل بوترو: «فلسفة كانط» (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971)، وكتاب هربرت ماركوز: «العقل والثورة: هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية» (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970)، وكتاب فرانز مهرنغ: «كارل ماركس» (دار الطليعة، بيروت 1972). يجب تهنئة الصديق عصام سليمان على هذه الترجمة التي تضعه بين كبار المترجمين من محاولة ترجمة أولى تتسم بالإتقان في نقل الكتاب للعربية عن الألمانية، فيما اعتاد العرب نقل الفلسفة الألمانية عبر لغات وسيطة، وهذا ما حصل مع مؤلفات هيغل وماركس ونيتشه وأسوالد اشبنغلر.
 
كان الياس مرقص يقول: «هناك ثلاث شجرات للفكر الحديث:كانط وهيجل وماركس،وباقي المفكرين أغصان على احدى هذه الشجرات الثلاث”.من خلال كتاب :”معلم ألماني:هايدغر وعصره” يبدو أن هناك شجرة رابعة،لم يكن الجيل العربي لمثقفي النصف الثاني من القرن العشرين قد اطلع عليها بحكم هيمنة الفكر الماركسي،في الثقافة وليس السياسة،على الأجواء الفكرية- الثقافية العربية خلال فترة1945-1991 . عبر الكتاب نتلمس بأن هايدغر هو في خط فلسفي خاص ضد كل الخط الحداثي الغربي المؤسس والمدشن مع ديكارت(ت1650) والتي لايمكن تصور الكانطية والهيجلية والماركسية من دونه،ولوأن الاتجاهات الثلاث الأخيرة كانت المنبع لاتجاهات فلسفية:(الكانطية:الوضعية- فلسفة الحياة- الكانطية الجديدة- الظاهراتية عند إدموند هوسرل- الوضعية المنطقية)،ولاتجاهات سياسية عند (الهيجلية:فيلسوف الحزب الفاشي الايطالي جيوفاني جنتيلي- ألكسندر كوجيف في كتابه :”مدخل إلى قراءة هيجل”عام1947الذي أخذ منه فرانسيس فوكوياما فكرة “نهاية التاريخ”عام1989في تفسير ليبرالي لهيجل)أوعند (الماركسية:الاتجاه الاشتراكي- الديمقراطي مع إدوارد برنشتين عام1898،أوالاتجاه الشيوعي مع لينين مع تأسيس الأممية الثالثة عام1919،أوالاتجاه التروتسكي الذي ابتعد منذ أوائل الثلاثينيات مع ليون تروتسكي عن الطبعة السوفياتية للماركسية).
 
مع مارتن هايدغر هناك خط مغاير لمسار الفكر الغربي الحديث الذي بدأ بالقطيعة المعرفية مع أفكار العصر الوسيط عبر توما الإكويني(1225-1274)مستدعياً أرسطو وفلسفة العمل عنده ضد النزعة التأملية الأفلاطونية المحدثة ذات الطابع العرفاني الإشراقي التي سيطرت على الكنيسة الكاثوليكية مع القديس أوغسطين (354-435ميلادية)حتى جاء الإكويني ليقوم بتلك القطيعة ثم ليأتي ديكارت ويقدم فلسفة عقلية عبر(الكوجيتو الديكارتي)تصبح فيه المحسوسات امتداداً لفكر العقل كمدخل للممارسة.الفكر الحديث مع ديكارت انبنى على ثنائية ذات- موضوع،في الشق الأول يوجد العقل ومعه (الكوجيتو)،وفي الشق الثاني توجد الطبيعة.عند الفلسفة التجريبية مع جون لوك (ت 1704)ودافيد هيوم(1776)كان هناك فلسفة درست علاقة العقل بالتجربة ، وعند كانط(ت1804)كان هناك فلسفة أثبت من خلالها صاحبها أن هناك انفصالاً بين (النومين:الجوهر أوالشيء في ذاته)وبين (الفينومين:الظاهرة)،وأن العقل محدودة معرفته بالظاهر الحسي وأن “الجوهر” أوالشيء في ذاته لايمكن الوصول لمعرفته عبر العقل البشري المحدد بحدود الحس،وبالتالي فإن المعرفة بعالم ماوراء الطبيعة(الميتافيزيقا)غير ممكن اثباتها أونفيها عبر “العقل المحض”،ولكن يمكن الايمان بعالم ماوراء الطبيعة عبر (القلب).عند هيجل يمكن الوصول إلى (الجوهر)أو(المطلق) أو(العقل المطلق) عبر الحركية التاريخية باعتبار التاريخ ميداناً لتحقق العقل:”العقل يسيطر على العالم،وإن تاريخ العالم بالتالي يتمثل أمامنا بوصفه مساراً عقلياً”(هيجل:”محاضرات في فلسفة التاريخ”،دار التنوير،بيروت1983،ج 1،ص78).عند ماركس لايعتبر التاريخ متحركاً عبر (العقل)بل عبر (حركية البنية الاقتصادية- الاجتماعية).
 
عند هايدغر هناك استدعاء لأفلاطون ضد الخط الأرسطي- الديكارتي وهناك تغليب للأنطولوجي على التاريخي ورفض لفصل كانط بين (الفينومين) و(النومين)،وهذا ماشكل قطيعته الفلسفية مع أستاذه إدموند هوسرل مؤسس المدرسة الفينومينولوجية(الظاهراتية). يرفض هايدغر ثنائية الذات- الموضوع والامتدادية الديكارتية للفعل العقلي من (الذات) إلى (الموضوع).من خلال مفهوم (الدازاين DASEIN :الوجود الحاضر هناك)يرفض هايدغر ثنائية ديكارت بين(الذات)و(الموضوع)وانفصامية كانط الفاصلة والقاطعة بين (الفينومين)و(النومين)،ويعتبر (الدازاين)جسراً موحداً ل(الذات)و(الموضوع)وجسراً واصلاً بين (الفينومين)و(النومين).(الدازاين)عند هايدغر هو الوجود المتحقق عبر انفتاح الكينونة الانسانية على الكون.معنى الكينونة عند هايدغر هو الزمان.هذا الزمان ليس التاريخ بل هو (المعيوش)من قبل الذات( هذا قريب من مفهوم فيلهلم ديلتاي ،المتوفي عام1911 ، مؤسس فلسفة الحياة) ،أوالذات التي تنخرط في (الوجود الحاضر هناك). لذلك (الدازاين)عند هايدغر ليس هو فقط (الوجود الحاضر هناك) بل هو (الوجود).استدعاء أفلاطون من قبل هايدغر يجب فهمه هنا من خلال رفض أفلاطون الفصل بين (عالم المُثل)و(عالم الحس)،حيث يعتبر أن الثاني صورة للأول،وبالتالي ليس هناك انفصالاً بين (الفينومين)و(النومين).عند الأفلاطونية المحدثة والغنوصية تم تطوير فكرة أفلاطون لكي تكون (الروح)في موقع (المُثل)وأن العالم يأخذ معناه من خلال تمثل (الجسد) ل(الروح)النازلة من السماء لكي يحصل (الخلاص)عبر التطهر من العالم الجسدي نحو (الروح ) عبر التعالي والتسامي على المحسوسات.كل التصوف لدى كل الأديان نبع من هنا. يرى هايدغر أن انسان العصر الإغريقي كان صورة للعالم بالمعنى الأفلاطوني للمُثل والصورة،فيماانسان العصر الحديث ليس كذلك من خلال خضوعه لسلطة التقنية العلمية وتحوله إلى عبد لها أومحدداً بها.هايدغر ضد ثالوث العالم المادي الحديث: العقل- المنطق- العلم.هو ايضاً وجودي لأن هايدغر- حسب تعبير حنة أرندت- يقع ضمن “النسخة الألمانية الوجودية بدءاً من شيلنغ..وانتهاء بهايدغر، التي كشفت عن ميل متزايد إلى وضع الذات الانسانية الفردية بصفتها موئل الحقيقة مقابل الكلية الاجتماعية الزائفة”(الكتاب المترجم،ص 500).رغم تخلي هايدغر عن الكاثوليكية عام1919إلاأنه ظل في إطار التدين المسيحي.هنا،كان طبيعياً أن يجد هايدغر نفسه في عداء عميق مع الماركسية والليبرالية،وقد وجد في هتلر مثالاً ضد النزعة السوفياتية (التخطيط الاقتصادي) وضد الأمركة (التقنية).كان هناك نتيجة منطقية لانضمامه إلى الحزب النازي من خلال فلسفته حيث يقول كارل لوفيث بأن “انحياز هايدغر إلى الاشتراكية القومية يقع في جوهر فلسفته”(الكتاب المترجم،ص 434).
 
مات مارتن هايدغر في عام1976.لم يشهد مؤسس (نزعة ضد الحداثة)انتصار اتجاهه،الذي أخذ أبعاده بعد موته.في عام1979أصدر جان فرانسوا ليوتار كتابه:”وضع مابعد الحداثة:تقرير في المعرفة”.في ذلك العام تولت مارغريت تاتشر رئاسة الحكومة البريطانية وفي العام التالي انتخب رونالد ريغان لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية.في عام1978انتخب البولوني يوحنا بولس الثاني على رأس الكنيسة الكاثوليكية وقد كان في عام1980هو القوة المعنوية وراء نقابة التضامن التي بدأت بهز منظومة حلف وارسو انطلاقاً من العاصمة البولونية.في الشرق الأوسط كان تنظيم الإخوان المسلمين يدخل في مرحلة مده انطلاقاً من مصر عام1975حتى وصوله لحكم القاهرة عام2012فيماكان الخميني مع وصوله للسلطة في طهران في 11شباط 1979يعلن بداية المد الأصولي الشيعي.مع هذه الظواهر الستة بدأت الموجة اليمينية العالمية معلنة انتهاء المد اليساري العالمي الذي بدأ مع ثورة أوكتوبر 1917الروسية. مع ليوتار هناك ترداد للمقولات الأساسية الموجودة عند مارتن هايدغر،ولكن أهمية كتاب ليوتار أنه أتى لكي يقدم زاداً أيديولوجياً للمد اليميني العالمي في لحظة بدء صعوده من خلال مقولة(مابعد الحداثة) التي هي في تجابه خطي مع كل مسار ومقولات (الحداثة):مفاهيم العقلانية- التقدم- الهدفية التاريخية- عمومية الاجتماع البشري- الكونية – والعالمية.هذا المد اليميني العالمي مازال قوياً،مع دونالد ترامب واليمين الأوروبي الجديد ومع فلاديمير بوتين الذي يحكم في موسكو عبر ثالوث الجيش والكنيسة الأرثودكسية ورجال الأعمال،ولم يدخل في بدء مرحلة الانحسار سوى الأصولية الإخوانية التي دخلت في مرحلة الجزر مع سقوط حكم الاخوان المسلمين في مصر بيوم3يوليو2013وماتبع ذلك من سقوط حكم (الاخوان)في تونس وانحسار وزنهم في صنعاء وطرابلس الغرب،فيماهناك علامات متزايدة على بدء انحسار السلفية الجهادية ممثلة ب(القاعدة)و(داعش).
 
* كاتب سوري.

التعليقات معطلة.