سلطان البازعي
يقول الديبلوماسي السنغافوري البروفيسور كيشوري ماهابوباني: «عمر الولايات المتحدة الأميركية لا يتجاوز 240 سنة، ومع ذلك يجرؤ الأميركيون على إطلاق الأحكام على الصين التي تمتد حضارتها إلى 2400 سنة».
كان الرجل يتحدث أمام منتدى فكري نخبوي في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية وكأنه يريد أن يقول لهم: «ألا تستحون؟!».
لم يكن فجّاً في خطابه، لكنه كان صريحاً حين قال لهم: «بينما يعيش الصينيون أفضل 30 سنة في تاريخهم يأتي الأميركيون ليقولوا لهم يجب عليكم أن تغيروا من نظامكم السياسي وأن تكونوا دولة ديموقراطية مثلنا»، ويمضي شارحاً أنه بينما لا زالت الصين محكومة من قبل الحزب الشيوعي نفسه منذ عام 1949 وسيظل الحزب نفسه يحكمها في الأعوام القادمة، فإن الذي لا يدركه الغرب أن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين تغير بشكل جذري في الـ30 عاماً الأخيرة، ما أحدث هذه الطفرة الاقتصادية والتقنية الهائلة، وأنه بينما لم يتغير شيء في مجال الحريات السياسية فإن الحريات الشخصية للناس في العمل والتنقل والسكن والمعيشة والسفر قد تحولت بالكامل، ودلل على ذلك بالإشارة إلى أن 120 مليون صيني يغادرون الصين في كل عام للسياحة وأن هؤلاء جميعاً يعودون إلى بلادهم، ولم يكونوا ليعودوا لو أنها لا تزال محكومة بالقبضة الماوية الستالينية نفسها التي سادت في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، وأنهم لربما انضموا إلى المهاجرين الأوائل الذين هربوا في الخمسينات من ثورة ماو تسي تونغ وأسسوا أحياء صينية في كثير من المدن الغربية الكبرى تعرف باسم «تشاينا تاون»، يقصدها محبو الطعام الصيني وتصورها الأفلام الأميركية بأنها مرتع للعصابات وتجارة المخدرات.
لكن الصينيين اليوم تجدهم في كل مكان في العالم سيّاحاً أثرياء ينفقون بسخاء، أو رجال أعمال مستثمرين في أسواق الأسهم وتجارة العقار، وأنهم بينما يجادلهم الغرب حول الحريات السياسية وحقوق الإنسان تجدهم يرسلون سفنهم لاستكشاف الفضاء مسابقين للأميركيين والروس والأوروبيين، ويفكرون في إضاءة مدنهم بشمس صناعية معلقة فوق الغلاف الجوي لتعكس أشعة الشمس في الليل، ويظهر منهم رجل أعمال عبقري ضئيل الحجم اسمه جاك ما يؤسس امبراطورية مالية وتقنية اسمها «علي بابا» تنافس أمازون، ويديرون ظهرهم لكل شركات التقنية الأميركية الكبرى فيسبوك وتويتر وغيرها، ويطورون بدائلهم الخاصة بهم، كما يؤسسون «هواوي» شركة الاتصالات المتنقلة العملاقة لتنافس على تطوير اتصالات الجيل الخامس بقوة، جعلت الولايات المتحدة تتهمها بالتجسس وتحرض حلفاءها على محاصرة الشركة، بل إن كندا استجابت لطلب أميركي واعتقلت واحدة من كبار المديرين التنفيذيين للشركة الصينية.
ويختم الديبلوماسي السنغافوري حديثة بالقول بأن الصينيين رأوا ماذا فعلت «الديموقراطية الفورية» بروسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد انهار الاقتصاد وانخفضت معدلات الأعمار وارتفع معدل وفيات الأطفال وزادت معاناة المواطن الروسي، ثم يقول مخاطباً الأميركيين: «لقد اعتدتم خلال 200 عام على أن تملوا على العالم ما تريدون، وأنا أقول لكم اليوم أن العالم لم يعد يريد أن يسمع منكم أحكاماً، فمن حق الصينيين وغيرهم من الشعوب أن يطوروا نظامهم السياسي بطريقتهم الخاصة وفي الوقت المناسب لهم».
وربما لا تكون روسيا هي المثال المناسب هنا، فقد تمكّن رجل المخابرات القوي فلاديمير بوتين من استخدام اللعبة الديموقراطية ليحكم قبضته على الحكم، ويحافظ على هيبة بلاده ودورها في الساحة الدولية، لكني لو كنت مكان البروفيسور ماهابوباني لكنت استخدمت العالم العربي مثالاً، إذ شاهدنا ما فعلته خلطة «الديموقراطية سريعة التحضير» التي أتت بعد التدخل الأميركي المباشر في العراق، أو بإحداث الفوضى الخلاقة في ليبيا على سبيل المثال، وبالتأكيد فإن المثال اللبناني الممتد منذ الاستقلال من الحماية الفرنسية لم يخلق «جنة الديموقراطية» الموعودة، وهو الحلم المقابل لحلم «جنة البروليتاريا» التي بشرت بها الشيوعية.
والصحيح أيضاً أن النموذج الغربي للديموقراطية، وإن كان يبدو ألا بديل له الآن، فإنه لا يخلو من الخلل الواضح حتى في أعرق الدول ممارسة برلمانية، فالمؤسسات الديموقراطية لم تمنع السترات الصفراء في فرنسا من النزول إلى الشارع للمطالبة بما رأته حقاً لها في إدانة واضحة لكامل الممارسة الديموقراطية التي توصل تحالف أصحاب المصالح إلى كراسي الحكم.
المثير أن الديبلوماسي السنغافوري يأتي من دولة فيها أنموذج متقدم للحكم الرشيد الذي يرعى حقوق الإنسان ويسعى لتقدمه، وهو أنموذج برلماني ناجح على رغم تعدد الإثنيات والديانات، لكنه مع كل ذلك يوجه هذا النقد الحاد للغرب، ويطالب بإعطاء الشعوب فرصتها لتطوير نماذجها الخاصة المناسبة لها، ولعل الرسالة الأكثر أهمية في حديثه هي أن الديموقراطية ليست غاية بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق الرخاء والتقدم للشعوب، ولا يجب أن تكون الدعوة إليها وسيلة للسيطرة والإلهاء، لكن كثيراً من مثقفينا العرب ينجرفون مع تيار الضغوط الغربية ويطالبون بالديموقراطية الفورية سريعة التحضير، وكأنهم كلهم قرأوا كتاب «كيف تصبح ديمقراطياً في سبعة أيام».
* كاتب سعودي.