فوزي رمضان
صحفي مصري
كوسيلة من وسائل الاعتراض والاستنكار، ونوع من الرقابة الشعبية، لا يتم إلا في مناخ جمهور مثقف وواعٍ، تبرز المقاطعة كأسلوب حضاري تتبناه الشعوب المتحضرة، وردة فعل تقدم عليها وتمارسها شريحة كبيرة من المستهلكين كلما أدركوا ابتزازا أو تلاعبا في أسعار سلعة أو جشعا من التجار.. هنا تتم عملية التوقف الطوعي عن استخدام تلك السلعة أو الخدمة، وباستخدام قوة الرأي العام الجمعي تنتصر إرادة الجماهير.. إذن المقاطعة سلاح من لا سلاح له، وسياسة من لا حيلة له، وهي الدبلوماسية الشعبية لاقتناص الحقوق.
لم تكن حملة (خليها تصدي) التي أربكت سوق السيارات المصري وليدة المجتمع، بل كانت تيمنا بالحملة التي أطلقها مجموعة من الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر منتصف العام الماضي، ولاقت ترحيبا واسعا من المجتمع الجزائري، وكشفت بجلاء عن الكثير من الخبايا التي يقوم بها تجار السيارات في ابتزاز المواطن، وقد اعتبرت الحملة هي الأقوى والأعنف في تاريخ حملات المقاطعة، بعد أن شعر أفراد المجتمع أن حقهم يتلاعب به من قبل أشخاص يقدمون مصالحهم الشخصية على المصالح العامة.
نجح الشعب الجزائري في تغيير مصيره، وجند قوته الجمعية للوقوف ضد أي تلاعب، في أقل من شهرين انهار سوق السيارات في الجزائر، خصوصا المجمعة على أرضه، وأجبرت الشركات على تخفيض كبير، وصل إلى 40% من الأسعار السابقة، ما يؤكد فعلا التلاعب والابتزاز والجشع من قبل وكلاء السيارات.. نجحت حملة (خليها تصدي) الجزائرية، فكانت سلاحا فعالا ومثمرا له آثاره الاقتصادية، وتحركت الدولة للتدخل كي تحد من كم الخسائر المهولة لتجار السيارات، عندما قررت وزارة الصناعة والمناجم الجزائرية نشر قوائم الأسعار الحقيقية للسيارات من المصنع، والسعر النهائي للمواطن، بما لا يتعدى هامش الربح ما بين 881 إلى 2640 دولارا، ويعتبر هذا إنجازا لم تتوقعه مطلقا حملة (خليها تصدي) منذ انطلاقها منتصف العام الماضي في الجزائر.
وقد انتفض المواطن المصري أيضا عندما شعر بأنه يقع تحت وطأة ظلم بين وجشع مريع، من قبل 6 آلاف معرض و47 وكيلا للسيارات، فسعر السيارات في مصر هو الأغلى في العالم مقارنة بدخول المواطنين، وتباع السيارات أغلى عن مثيلتها في دول الخليج العربي وأوروبا، رغم أن مواصفات الأمان والسلامة أقل، ومن غير المعقول أن يكون هامش الربح 30 إلى 40% في السيارة الواحدة، ببلد لديه 17 مصنعا لتجميع السيارات ذات العلامات العالمية، ورغم ذلك أسعارها أعلى من بلد العلامة الأصلية.. إذن هناك خلل وجشع.
تاجر السيارات في السوق المصري يتحكم في أسعارها كيفما يشاء، ويحدد هامش الربح بعيدا عن أي رقابة حكومية، وهو ما يدخل في خانة النصب والاحتيال والابتزاز، لذا انطلقت حملات إلكترونية بمقاطعة شراء السيارات الجديدة تزامنا مع انتهاء الفترة الانتقالية لاتفاقية الشراكة الأوروبية، والتي تنص في بنودها على إلغاء جمارك السيارات المستوردة ذات المنشأ الأوروبي، ولاقت الحملة رواجا كبيرا بين رواد التواصل الاجتماعي ليتجاوز أعدادها المليون شخص.
بالفعل أصاب سوق السيارات المصري الارتباك والركود، وتداول المصريون صورا لتكدس السيارات المستوردة في أحد الموانئ، ومع توقف حركة البيع انخفض الدولار أمام الجنيه المصري، في سابقة لم تحدث من قبل، وتدخل مسؤولو علامات السيارات العالمية ـ بعد التراجع الكبير لمبيعاتها ـ لإجبار الوكلاء على تخفيض أسعار السيارات، ويعتبر هذا بداية النجاح، ولو استمرت الحملة أكثر لتغير الكثير.
لقد نجحت من قبل حملات المقاطعة العربية لكافة المطاعم الأميركية إثر العدوان الإسرائيلي البربري على قطاع غزة عام 2009، وألحقت المقاطعة خسائر فادحة بالمطاعم، بلغت 810 ملايين دولار، وأغلقت 719 مطعما بين فروعها المنتشرة حول العالم، كما انخفضت أسهم الشركة في البورصات العالمية، واستمرت المقاطعة رغم تخصيص ما قيمته 18 بنسا من كل وجبة للمستشفيات الفلسطينية، وسابقا استطاع المهاتما غاندي أن يقف أمام الاستعمار الإنجليزي لبلاده عن طريق سلاح المقاطعة، وكان يقول لشعبه (كلوا مما تنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو).
إن ثقافة المقاطعة تأصيل لحقوق المواطنة، وأسلوب حضاري سلمي، كما أنها سلاح ناجع إذا استخدم بفاعلية ووعي، ويعتبر إشهار هذا السلاح عبر مواقع التواصل الاجتماعي دليلا على نضج الوعي المجتمعي للمواطن العربي، وقدرته على استغلال طاقته الجماعية في وقف الجشع والابتزاز من قبل الفئات التي تتلاعب بأسعار سلعة استهلاكية أو خدمية، بات المواطن العربي يستغل شبكات التواصل في الردع المباشر لاقتناص الحقوق، بعيدا عن التحريض والعنف. وطالما نجحت حملة (خليها تصدي) في مصر، وقبلها الجزائر، فمن المؤكد أن هذا النجاح سيدفع على الانتشار، كما يشجع على أن تكون هناك مقاطعات لسلع وخدمات أخرى شهدت ارتفاعات رهيبة في الأسعار، ومن الحملة الأشهر (خليها تصدي) إلى خليها… وخليها… وخليها… يحصل المواطن على حقه.