زهير ماجد
قليل من كثير أم كلثوم الفلاحة التي دونت اسمها في سجل الخالدين، فإذا هي طقس عربي يتكرر كل يوم وكل ساعة، لا يغادر المزاج، ولا الواقع، لكنه أيضا وبقوة لا يغادر الوطن والأمة.
في مثل هذه الأيام من شهر فبراير توفيت في القاهرة عام 1975 .. أربع وأربعون سنة مرت و”وثومة” كما يلقبونها ما زالت سيدة الغناء والآهات والأحلام الوردية الشبابية، لكنها أيضا وأيضا ما زال اسمها خالدا في الوطن الذي عشقته، وفي الأمة، وفي فلسطين. ففي قلبها مزروع كل هذه، وعلى شفتيها كم ترددت، وفي عقلها المثقف والجريء والصريح تربت.
لم يتحد العرب إلا على صوتها كما قيل، أغانيها العاطفية مقياس إنساني وليس مجرد كلمات مرصوفة، وأما أغانيها الوطنية فلها في ذمة أوطاننا وأمتنا الكثير. قدمت منه أكثره تأثيرا في النفوس العربية في كل أيامها ومعاني أيامها، حتى أنها بكت مرات، يوم هزيمة يونيو 1967، ويوم استقال عبد الناصر وأكثر يوم وفاته.
ليست تلك المطربة مجرد مغنية عادية، بل هي حالة وطنية وقومية .. فمصر كانت خاطرا في فمها وفي قلبها كما غنت، والطريق إلى فلسطين لا تمر إلا من فوهة بندقية كما غنت للشاعر نزار قباني، ولأجيال العرب قالت “تعالوا يا أجيال يا رمز الأمل من بعد جيلنا واحملوا ما حمل”، لكأنما كانت تعرف ثقل ما حمله جيل العروبة والوحدة وبناء الوطن.
عندما قامت حركة الضباط الأحرار عام 1952، تم منع أغاني أم كلثوم من الإذاعة، فاشتكى الصحافي مصطفى أمين إلى عبد الناصر الذي ذهل يومها بالخبر، وحين طالب مسؤول الإذاعة عن هذا الأمر اعترف له بصحته كونها من العهد البائد، فما كان من عبد الناصر إلا أن أجاب على الفور والأهرامات أيضا من العهد البائد فهل نلغيها..؟ وإثر هزيمة يونيو سكتت أم كلثوم عن الغناء فعرف عبد الناصر وأرسل وراءها مطالبا إياها العودة إلى الغناء لأن الناس هم في أمس الحاجة لصوتها في هذه الظروف. فكانت أن اتخذت منحى لم يقم به أحد من كل فناني العالم، حين قررت القيام بجولة غنائية في كل العالم والعالم الغربي، على أن تعود الأموال التي ستجنيها كلها للمجهود الحربي المصري. ومن جملة الأماكن التي غنت فيها مسرح الأولمبياد في باريس، فأرسل لها يومها الرئيس الفرنسي الجنرال ديجول برقية يقول لها فيها ما معناه إنه لم يفهم أيا من كلماتها، لكنها تظل ثروة وطنية لبلادها مصر وللإنسانية جمعاء.
مشهود لهذه الفنانة الكبيرة تاريخها الوطني الذي لا ينسى وعميق حبها لمصر ولأمتها ولفلسطين، وهي التي غنت قبل هزيمة يونيو 1967 بأيام أغنيتها الشهيرة “راجعين بقوة السلاح” إلى أن تقول “جيش العروبة يا بطل الله معك/ مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود/ حول لها الآلام بارود في مدفعك”.
لا ينتهي الكلام ولا تنتهي الكتابة عن تلك المطربة سيدة الغناء العربي التي حزنت على ما جرى لها بعد وفاتها حين قام الورثة ببيع فيلتها بالقاهرة وأقيمت مكانها عمارة ضخمة .. من المؤسف أنه لم يقم لها متحف خاص .. حتى أنه بعد وفاتها جرى نقاش حول استئصال حنجرتها وتحنيطها لما تميزت به من قوة وصوت رنان ومن تمايز ليس له مثيل لا قبل ولا بعد، إلا أن فتوى رفضت الأمر وأسدل الستار على الجسد، لكن الصوت ظل منطلقا من كل مكان عربي وسيظل كذلك إلى الأبد.