عن تدمير النظام التعليمي في العراق

1

 

سيّار الجميل

العراق هو الدولة الأكثر تفسّخاً، ومرتبتها 168 في سلم الفساد من بين 175 دولة، وفقاً لمؤشر العام 2018 لمنظمة الشفافية الدولية، إذ بلغ متوسط معدل الفساد في العراق 162.19 بين 2003 – 2018، ووصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، رقم 178 عام 2007، بعد أن كان قد سجل مرتبة قياسية هي 113 عام 2003. ويصنف مؤشّر مدركات الفساد في كلّ البلدان على أساس تغلغل الفساد في قطاعها العام. وأن تصنيف الفساد عراقياً، بالإضافة إلى الإصدارات السابقة، والتوقّعات التاريخية العليا والمنخفضة وقصيرة الأجل، والتنبؤ على المدى الطويل، والتقويم الاقتصادي وإجماع الاستطلاعات، في ما يخصّ تصنيف الفساد عراقياً من خلال البيانات الفعلية والمخطط التاريخي، وتقويم الإصدارات مع فبراير/ شباط 2019. وتعتني هذه المقالة بالنظام التعليمي العراقي، وما أصابه من تدمير.
تمتّع العراق بأفضل نظام تربوي وتعليمي في الشرق الأوسط منذ تأسيسه الحديث على أيدي رجال بارعين بناة أكفاء، ولكنه أصيب بنكساتٍ قويةٍ منذ عقد ثمانينيات القرن العشرين إبان الحرب العراقية الإيرانية، على الرغم من بقائه الأفضل على غيره عربياً، لكنه عانى من مشكلاتٍ بنيويةٍ وأكاديميةٍ، بسبب التسييس الحزبي والحروب والعقوبات وضحالة التدريس وهجرة الكفاءات وملاحقتها. وقد عقدت الوزارة المختصة، في عقد التسعينيات، ندوة كبرى بعنوان “إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراق”، لكنها لم تفلح في معالجاتها بتاتًا. والحقيقة أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تلتفت إلى ما أصاب هذه المؤسسة من معضلاتٍ
“تمتّع العراق بأفضل نظام تربوي وتعليمي في الشرق الأوسط منذ تأسيسه الحديث على أيدي رجال بارعين بناة أكفاء” خطيرة، إذ تعرضّت للتهديدات والهجرة القسرية والخطف الجماعي واغتيالات الأكاديميين العراقيين، ورثاثة المدارس ومحو التقاليد التربوية. في 2004، قال وزير التعليم العراقي، طاهر البكاء، إن النظام التعليمي في البلاد فاسدٌ، إلى درجة أنه، بصفته وزيرا، لا يوجد ما يمكنه فعله حيال ذلك، على الرغم من تطلّعه لفعل الكثير.
شاعت بعد العام 2003 مطالباتٌ من نخبة الأكاديميين في المنفى العودة إلى العراق للمساعدة في إعادة بناء البلاد على أسس صحيحة، لكن محكمة بروكسل حذّرت لاحقاً من أن “هؤلاء الأكاديميين العائدين قلّما يعثرون على وظائف والترحيب بهم أبعد ما يكون عن الدفء”. وأثار البيان قلقاً كبيراً لدى الأكاديميين العائدين.. إذ كانوا يعانون كثيراً، فهم على مسرحٍ يزدحم بالأعمال الإجرامية، مثل الخطف والاغتيالات، وصولا إلى أنّ أهل الداخل، وخصوصاً ممن تمّ تصنيعهم داخلياً، رفضوا هؤلاء القادمين، وطردوهم بعدم الاستماع لهم، بل ولم يمنحوهم وظائفهم مرّة أخرى.
تعود عوامل خراب التعليم في العراق إلى هجرة أعداد كبرى من المختصين، وهروبهم نحو الخارج قبل سنواتٍ من الاحتلال وما بعده، فغدا نظام التعليم في حالةٍ يرثى لها، فضلاً عن رسوخ النزعة الإقصائية التي مورست ببشاعةٍ سياسياً في مختلف العهود، وحلّـت معها أيضاً النزعة الطائفية، فقاد ذلك إلى مزيدٍ من محو الذاكرة الجماعية والوطنية، وزادَ من ابتذال الثقافة العراقية. وكما كان النظام السابق يرسل الحزبيين فقط إلى الخارج، أو يقبلهم في الداخل للدراسة والتحصيل، مارس النظام الجديد الفعل نفسه، معتمداً الخلفيات الطائفية للطلاب والمدرسين، وليس مهاراتهم أو كفاءاتهم، وتجنّب المنافسة، كما مورس تغيير الأسماء على دفاتر الامتحانات، ليقطعوا الطريق على الطلاب المبدعين. وحلّ الاحتيال والاستلاب بدل البطش والظلم كما كان. وأخذ الفاسدون الجدد يغيرّون حتى في أوراق الامتحان، أو يبيعون الأسئلة. أو يطرحون أسئلة امتحان يصعب على الطلبة الإجابة عليها، فانخفضت نسب النجاح. وهناك أيضا الجهوية التي لعبت دوراً قذراً في رفع معدّلات أبناء جهةٍ على حساب التنكيل بجهة أخرى، ولأسبابٍ معلومة ومكشوفة! وقد علّل ذلك أحد المسؤولين بقوله “إنه خلال حكم صدام لم يأخذ الطلاب في الجنوب استحقاقهم بدرجاتٍ عالية، وتمت الآن تسوية العدالة”، ما يعني أنّ تمييزاً مقرّراً يجري من المسؤولين الجدد للعراقيين، وهذه جريمة نكراء جرى تسويقها علناً، ووجدنا رئيس لجنة التعليم في البرلمان يقول إنه قلق من مزاعم إن وزارة التعليم تميّز ضدّ الأقليات.
انتقل التعليم في العراق من حالة الضعف والتسييس إلى حالة الفساد والاحتيال والتزوير إلى حالة الفوضى العارمة في جميع أنحاء البلاد. وتتحمّل الولايات المتحدة منذ العام 2003 مسؤولية الفساد الذي زرعته باعتماد المحاصصة على أساس طائفي وعرقي، بدل التمايز الحزبي الذي كان سائداً، فقاد ذلك إلى تدمير أجهزة الدولة ومؤسساتها العامة. واستخدم التزوير في الشهادات، بغرض التوظّف والتحكّم في تلك الأجهزة. والنتيجة فساد عام لا يمكن المساس به، واستشراء ثقافته القاتلة بحماية من الأحزاب الحاكمة على مرأى المسؤولين الأميركان ومسمعهم مع استخدام نظام الكوتا وجرائم التلاعب بالسجلات واضطهاد الموظفين غير المتعاونين، وتزوير العلامات والوثائق ونفوذ مليشيات وعصابات، ناهيكم عن محاولاتهم في محو التاريخ وتشويه الذاكرة الوطنية، وثقافة البلد والإبادة الثقافية، والتهديدات والاغتيالات للمثقفين العراقيين التي هي بمثابة جرائم حرب، بموجب اتفاقية جنيف.. وكسر الحق العالمي في المساواة والعدالة ومعدلات الكفاءة. وعليه، لا عدالة في العراق أبداً، ليس في التعليم فحسب، بل في كلّ مرافق الحياة.
في مؤسسةٍ كهذه، مدمّرة وخربة، وبعيدة عن أنظمة التعليم وأخلاقياته، هل نسأل: ما فائدة هذا الركام من شهادات الماجستير والدكتوراه التي تمنحها أقسام معيّنة في أغلب الجامعات؟ وما
“مفتش وزارة التعليم العالي وجد 2769 حالة من الشهادات المزوّرة في عامين، ووجدت هيئة الشفافية وسلامة النزاهة 1088 حالة أخرى” مستوى أصحاب هذه الشهادت؟ وما دورهم في التنمية والتطوير؟ وفي أية مؤسّسات سيعملون؟ وما قيمة “البحوث” التي ينجزونها، وما مدى مصداقيتها؟ لماذا هذا الإصرار على منح الشهادات العليا ضمن هذه الوضعية الصعبة؟ لماذا تصّر الأقسام الجامعية على التنطّع بمثل هذا الركام، خصوصاً في تخصصّاتٍ لا نفع فيها؟ أين سوق العمل لهؤلاء؟ جامعات قديمة في العالم تتحرّج من فتح دراسات عليا فيها لأسباب عدّة، تتعلق بالتخصصات ونوعية الكورسات. وفي العراق، تمنح الشهادت العليا كما تمنح الحلوى للأطفال.
وكان قد نشر أنه تمّ الإبلاغ في 1 سبتمبر/ أيلول 2009 أنّ التقرير الرسمي لمفتش وزارة التعليم العالي وجد 2769 حالة من الشهادات المزوّرة في العامين السابقين، ووجدت هيئة الشفافية وسلامة النزاهة 1088 حالة أخرى. ويدعي آخرون أن هناك قرابة مائة ألف من الشهادات المزورة، وأن مكاتب في بغداد، يمكنك شراء شهادتك الخاصة منها. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، أفيد بأن وزارة الداخلية العراقية اعترفت بأنّ أكثر من تسعة آلاف من موظفي الخدمة المدنية، بمن فيهم رفيعو المستوى في مكتب رئيس الوزراء، قدّموا شهادات جامعية مزيفة. وأفاد تقرير الشفافية الدولية بأن الفساد في العراق سيصبح على الأرجح “أكبر فضيحة فساد في التاريخ”. وعليه، لابد من حلول عاجلة وجذرية للنظام التربوي والتعليمي تبدأ من نقطة الصفر.

التعليقات معطلة.