مصر تتغير… التاريخ والسياسة والعمارة

1

 
خالد عزب
 
تعد عمارة مقر الحكم مؤشراً إلى التغيرات التي تحدث في طبيعة الحكم في مصر، وتعكس طبيعة المجتمع والمتغيرات الحادثة فيه، فلا شك في أن مصر في عصر إسماعيل تغيرت، كنتيجة طبيعية للتعليم الذي اندمج فيه من اقتنع من المصريين بأهميته، بل تدافع إليه بعضُهم لإحساسهم بأنه يحدث حراكاً اجتماعياً لهم. هذا كان من مؤشراته صعود استخدام اللغة العربية على حساب اللغة التركية كلغة للتعليم ثم كلغة رسمية للدولة، أضف إلى ذلك ظهور الصحافة بقوة كمؤثر في تشكيل الوعي والرأي العام، والمدقق بقوة في صحافة عصر إسماعيل سيجد انتقاداتٍ تُوجه له، وضد الوجود الأجنبي المستنفز لثروات مصر والمصريين، بخاصةً من بعض الأفاقين الأجانب الذين جاءوا للحصول على امتيازات دون أن يقدموا شيئاً.
 
 
وما حرصت عليه أسرةُ محمد علي هو إيجاد هرمية محددة للمدارس من الأولية إلى العليا، هذه البنية كانت ضروريةً لتخريج نوعية جديدة من موظفي الدولة يلبون متطلباتها، لكن في الوقت نفسه يتم زرع الولاء عبر النظام والتربية في هذه البنية لأسرة محمد علي. هذا يذكرنا بما قام به ولاةُ مصر الإسلامية حين فتحوا جامع عمرو بن العاص ليكون جامعةً علمية، والفاطميون الأزهرَ ليكون جامعةً علمية، والأيوبيون والمماليك المدارس لتكون أداةً لتحالفهم مع رجال الدين مع إدماج بعض خريجي هذه المدارس في السلطة لتلبية احتياجاتها من الموظفين، فكان منهم من تولى ديوان الإنشاء ومنهم من تولى الوزارة، واستمر هذا في العصر العثماني، إلا أن عصر محمد علي كان مختلفاً لتطور الدولة وحاجتها إلى موظفين لتلبية هذا التطور.
 
كان تطور أشكال العمارة في مصر من عصر الولاة إلى عصر محمد علي نمطيّاً، لم يخرج عن أطره المحددة، إلا أنه شهد مع أول محاولة للاستقلال عن سلطة الخلافة العباسية شخصية تحاول أن تبلور عمارة مصرية، وإن تأثرت بالعراق في القطائع التي لم يبق منها سوى مسجد أحمد بن طولون كأعظم وأقدم أثر شبه متكامل في مصر، إلا أننا نرى بوضوح مع الدولة الفاطمية شخصية معمارية لمصر تتشكل، لكن لم يظهر بمصر طراز معماري فريد متميز إلا في العصر المملوكي، حتى صرنا نراه في المآذن والمساجد والمدارس والقصور، وبلغ ذروتَه في منشأة السلطان حسن بميدان القلعة، وفي مدرسة السلطان قايتباي بصحراء المماليك، وفي العصر العثماني كانت هناك عمارة تعبر عن سلطة الوافد (مسجد سليمان بالقلعة ومسجد الملكة صفية) وهي مساجد صممت في إستنبول، غير أن مصرَ ظلت محتفظةً بالروح المملوكية في عمارتها، وإن دخلت نصوص تركية على كتابات هذه العمائر، هذا يعبر عن أن الوجود العثماني في مصر لم يكن قوياً قابضاً على كل شيء، لقد استطاع المصريون إيجاد مساحة ما بعيداً عن سلطة إستنبول، أتاحت لهم درجةً من درجات الروح المصرية.
 
أما في عصر أسرة محمد علي، فقد بات الوضع مختلفاً، إذ إن تأثر المصريين بالعمارة العثمانية أصبح أقوى، نتيجةً لاستقدام محمد علي لمهندسين من الأناضول أو شرق أوروبا، يظهر هذا بوضوح في قصر الجوهرة وقصر شبرا ومسجده، بينما في عصر خلفائه، وضح أن المهندسين المصريين والأوروبيين الذين عملوا في مصر كانوا أكثر تأثيراً إلى حد أن وجْه العاصمة بات وكأنه أوروبي، حتى إن إلياس الأيوبي يذكر «أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئاً فشيئاً، وتحل محلهما الصنهة على الطراز الغربي، حتى أصبح ثمن العينة فقط من الصنعة القديمة أغلى مما كان ثمن الشباك كله في عهد علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وكذلك بات شأن التنميق في داخل المنازل والقصور، فإن الذوق والصنعة زالا منهما، وحل الذوق والصنعة الغربية».
 
لكن كانت أسرة محمد علي مدركةً أن التراث العربي الإسلامي المعماري يربط هذه الأسرةَ بالوطن الذي يحكمونه، لذا نرى قصورهم تزينها الكتابات العربية، خاصة في قاعة العرش التي اكتسبت طابعاً عربيّاً صرفاً، كذلك فإنَّ الطبقة الوسطى المرتبطة بأسرة محمد علي على الرغم من تشييدها فيلات على الطراز الغربي في حي الحلمية الجديدة، ففي السلاملك الملحق بهذه الفيلات استخدمت حواجز من الخشب الخرط أو رواشن، هذا المزج سرعان ما اختفى إلا نادراً كما في حي غاردن سيتي أوائل القرن العشرين، ليقوم جدل معماري مصري بين إعادة إنتاج العمارة الإسلامية في صورة معاصرة في عدد من البنايات كنقابة الأطباء وجمعية المهندسين ووزارة الأوقاف وبناية دار الكتب المصرية، وبين الحداثة المعمارية في مبني وزارة الاتصالات، أو استدعاء التأثر بالعمارة اليونانية الرومانية الممتزجة بالحداثة في دار القضاء العالي أو جامعة القاهرة.
 
العمارة هنا ليست مباني، بل تعبير عن صراع هوية وصراع فكري في المجتمع المصري، وفي النهاية لم يستطع المعماريون المصريون إبراز تمايز معماري مصري عن الآخر أياً كان، هذا ما يؤكد إشكالية الهوية المعمارية في مصر، ولعل هذا يفسر الراحة النفسية بصورة أو بأخرى لدى المصريين تجاه قصر الاتحادية كمقر رئاسي منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، فسور القصر المغلف بالكتابات العربية وطرز الواجهات المستوحي من شموخ العمارة المملوكية، وهيبة القصر المعمارية المعبرة عن عظمة وقوة الدولة، جعلته يرسخ في ذهن المصريين كقصر رئاسي لمصر.
 
إذاً العمارة مبان تغير في الأنماط والتقاليد الاجتماعية، فالمصريون كانت غرف منازلهم متعددة الوظائف، فهي أماكن للاستقبال والطعام والنوم، لكن مع عصر أسرة محمد علي، خاصة منذ عصر إسماعيل، بدأت تغيرات تطرأ على المجتمع، انعكست في الأثاث وتصميمات المنزل، فقد أدخل إسماعيل عادات معيشية غربية، حملت الكثير منهم، على أن يستبدلوا ما كانوا عليه – كأجدادهم – من طرق الجلوس وأكل ونوم واستقبال الضيوف، بطرق جلوس الغربيين وأكلهم ونومهم واستقبالهم لضيوفهم، عملاً بالقول الشائع «الناس على دين ملوكهم»، هذا أدي إلى أن تصبح لكل غرفة وظيفة واحدة، وظهرت تبعاً لذلك أنماط جديدة من صناعة الأثاث.
 
لكن هذا أدى أيضاً إلى بدء اختفاء وتضاؤل وظيفة بعض الأبنية، فمع دخول خطوط المياه القاهرةَ في عصر إسماعيل تضاءلت تدريجيّاً بنايات الأسبلة وأهميتها، هذا يقودنا لعامل التكنولوجيا والمبتكرات الحديثة التي لها تأثير ليس في العمارة فقط، بل على السلوك العام للمجتمع، فالعربات التي تجرها الخيول انتشرت في مصر، لكن ظهور الترام والسيارات أدى إلى توسع القاهرة شرقاً حتى باتت صحراء شرق القاهرة ذات قيمة كبيرة جذبت سراة مصر، من هنا نستطيع أن نفسر تشييد السلطان حسين قصراً له في مصر الجديدة.
 
هنا يتحرر المصريون نتيجة سهولة وسرعة الحركة بالسيارة مع بدايات القرن العشرين من فكرة العيش إلى جوار السلطة بحكم الوظيفة أو الارتباط العضوي، ليذهبوا إلى مصر الجديدة ثم مدينة نصر، ويتحركوا عبر شوارع المدينة، حتى صار السكن في أطراف المدينة للأثرياء وليس للفقراء (القاهرة الجديدة مثلًا).
 
ومع التحول للنمط المعاصر لتركيبة السلطة وتقليص قبضة الحاكم الذي كان يظن أن هناك رعية تابعة له، إلى شعب يأتي بالحاكم، والذي يبدأ تدريجيّاً في التنازل عبر عقود عن السلطة المطلقة، نرى أن أدوات الرقابة بدءاً من مجلس شورى النواب تولد لدينا من عصر إسماعيل بناية البرلمان، التي أخذت بُعداً آخر بعد ثورة 1919 م مع الملكية شبه الدستورية في مصر، في افتتاح بناية البرلمان الجديدة المعبرة عن سلطة الشعب عبر البرلمان، ثم الحاجة إلى بناء قوي لدواوين الوزارات ورئاسة الوزارة، لتظهر بنية مختلفة للسلطة تتوزع من خلالها، وإن كان هناك شيء في مصر تجاه رأس السلطة يعطيها قوة القرار.
 
العمارة الإسلامية اعتمدت بصورة كبيرة على تعزيز الداخل على حساب الخارج وعلى مبدأ الخصوصية المطلقة، لكن مع التغير في أنماط العمارة، صار الخارج واجهات غير معبرة أحياناً عن التركيب الداخلي، فالأعمدة الزخرفية على واجهات البنايات الأوروبية الطراز لا تقدم وظيفة بل تقدم شكلاً زخرفيّاً، في حين كانت المشربيات والكوابيل الحاملة والأبواب كلها تعبر عن وظائف الداخل.
 
هل هيبة العمارة، لاسيما العمارة السلطة، أمرٌ أساسي؟
 
في حقيقة الأمر، إنَّ هذه الهيبة أساسية، ونتوقف هنا عند استقبالات سلاطين المماليك السفراء، سواء في ميدان القلعة أو في إيوانها الكبير أو في الحوش السلطاني. كان كل السفراء يكتبون تقارير تعضد هيبة هذه الدولة، وتركيبة القلعة كمقر للحكم يضم السلطان وعرشه والدواوين ودار نائب السلطنة والعساكر السلطانية وإسطبلات الخيول جعلت منها نموذجاً مُصغراً من الدولة تتركز فيه كل قرارات وأدوات الحكم.
 
وحين أدمج محمد علي المصريين في الجيش، وجنَّدهم في إطار نظامي يضمن له الولاء ولأسرته، أوجد مساحة لنقل مقر الحكم من الحصن المنيع، حيث يحتمي الحاكم من ثورات الشعب ومن انقلاب جنوده عليه، إلى المدينة الشاسعة، فسكن في طرفها الشمالي في شبرا شبه منعزل عن المدينة.
 
وبمرور الوقت أصبحت القصور الملكية مندمجةً مع المدينة العاصمة، خاصةً عندما أدرك إسماعيل المتغيرات في بنية المجتمع المصري، وحينما أرادت النخبة المصرية نصيبها في السلطة في ظل وعيها السياسي المتنامي، فأصبحت النظارات تقوم بعمل ما، تطور مع الزمن لتترسخ الدولة المعاصرة في أُطر جديدة.
 
* كاتب مصري.

التعليقات معطلة.