عوني القلمجي
لا يختلف اثنان بشأن ما يتركه الفساد من آثار خطيرة على أية دولة، مهما كانت قوية، فهو يزعزع أركانها، ويخرّب مؤسساتها، ويهدم بناها التحتية، ويدمّر منظومتيها التعليمية والصحية، كونه من جهة، يفسح المجال أمام انتشار السرقة وغسيل الأموال والرشاوى والاختلاس والتزوير والتهرّب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية. كما أنه يدفع الحكام إلى زج فئات المجتمع في نزاعات داخلية وحروب أهلية وطائفية للتغطية على ممارسات الفساد بكل أنواعه، والبقاء في السلطة أطول مدةٍ ممكنة.
ويلعب الفساد دورا قوياً في تشويه العلاقات الاقتصادية والإنسانية، ويؤدّي انتشاره إلى تعاظم مآسي الناس، وشيوع الظلم وإهدار الموارد العامة والخاصة، وإساءة استخدامها، ويجبر المفسدون على اتباع جميع الوسائل غير المشروعة، لتأمين حماية لهم عبر التقرب للسلطات بأشكالها كافة، وإيجاد تحالف بين المال والسلطة، ليتمكّنوا من تنفيذ مآربهم، حتى لو اضطروا إلى استخدام العنف والقوة والترهيب.
ويعدّ الفساد، على اختلاف مظاهره، المعوق الأكبر لكل محاولات التقدّم، والمقوَّض الرئيسي لكل دعائم التنمية، ما يجعل آثار الفساد ومخاطره أشد فتكاً وتأثيراً من أي خللٍ آخر، كونه لا يقتصر دوره المخرّب على بعض نواحي الحياة دون بعض آخر، بل يمتد إلى شتى نواحي
“بريمر: هؤلاء يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب” الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وكل هذه النتائج الخطيرة ظاهرة للعيان في العراق.
والمصيبة أن الفساد المستشري في العراق لا يقتصر على أفراد أو حزب أو وزارة أو مديرية عامة، ولا يخص أعضاء لجنة أو مفوضية، ولا قاضيا أو عضوا في محكمة أو موظف، كما هو الحال في الدول الأخرى التي تعاني من هذه الآفة، وإنما شمل كل مؤسسات الدولة، من أعلى سلطة فيها، مثل الحكومة ومجلس النواب والقضاء، إلى أصغر سلطة، مثل الدوائر الحكومية والمديريات العامة وغيرها. والمصيبة الأكبر أن جميع المسؤولين يعترفون بهذا الفساد، ولا يخجلون من ممارسته، بل إن بعضا منهم لا يهابون الحديث علنا عن سرقاتهم والأموال التي جنوها من خلال مناصبهم، بمن فيهم أعضاء في لجنة النزاهة المفترض فيها كشف ملفات الفاسدين وتقديمها إلى المحاكم.
يعلم رئيس الحكومة، عادل عبدالمهدي، ذلك كله علم اليقين، وهو حين يرفع راية الإصلاح، وشعار الضرب بيد من حديد على الفساد والفاسدين، إنما يفعل ذلك تيمنا بما فعله من قبله الأوائل الذين شغلوا المنصب بعد احتلال العراق، فراية الإصلاح ومحاربة الفساد أصبحت بمثابة التعويذة التي يتمتم بها الحاكم بصوت عالٍ، كلما تصاعدت حدة الاستياء الشعبي، واحتمال تحوّله، في أية لحظة، إلى ثورة شعبية تنذر بسقوطه ومواجهة مصيره الأسود. ولنا في عدم محاسبة سارق واحد، أو فاسد من رموز الحكومة، أو إجراء أي إصلاح متواضع يخدم المواطن خير دليل على ذلك، بل على العكس تماما، حيث يجري تكريم سارق أحيانا، أو ينقل من منصبه إلى منصب آخر، ربما يكون أكثر أهميةً من حيث تحقيق المكاسب غير المشروعة.
ومع ذلك، لندع عبد المهدي يمارس هواية أسلافه المفضلة، بالطريقة التي يختارها، تجنبا للدخول في نقاشاتٍ غير مجدية حول سجله هو وزملائه القدامى والجدد، فواقع الحال يؤكّد، بما لا يدع مجالا للشك، بأن “الدولة العراقية” أصبحت الحاضنة الحنون لكل أنواع الفساد، وأصبح السياسيون الحاكمون حريصين جدا على ترسيخ نتائجه الخطيرة، خدمةً لتنفيذ مخطط تدمير العراق، دولة ومجتمعا، وهذا ما يفسّر حرص المحتل الأميركي على توفير قدر أعظم من فرص الفساد، وتشجيع الانحرافات الأخلاقية والسلوكية داخل مؤسسات الدولة ومفاصلها. بل الأكثر من هذا، وضع المحتل آلية لحماية الفساد والفاسدين، لحمتها المحاصصة الطائفية والعرقية، وسداها دستورٌ ملغومٌ وقضاءٌ فاسد ومحاكم مسيّسة وانتخابات مزوّرة.
أمام هذا الواقع، ما يبشر به عادل عبدالمهدي عن إمكانية قضائه على الفساد بيد من حديد هو استخفاف بعقول الناس، وسياسة من هذا القبيل لا ترتبط بقرارات ورغبات، أو اختزالها بشعارات رنانة، بقدر ما ترتبط، بشكل كبير، بسلوكيات الحاكمين والمؤسسات والجهات الرسمية وغير الرسمية، وهذه جميعها ينخرها الفساد من القمة إلى القاع، بل إن هؤلاء الحكام الذين يتداولون السلطة منذ الاحتلال قد اختارهم المحتل الأميركي، بعناية فائقة، لتنفيذ هذه المهمة المشينة، وهذا ما أكّده الحاكم المدني للعراق حينها، بول بريمر، في وصاياه العشر إلى خليفته، جون نيغروبونتي، وتحديدا في قوله “هؤلاء يؤمنون بأن الاحتيال على الناس ذكاء، والاستحواذ على أموال الغير واغتصاب ممتلكات المواطنين غنائم حرب، لذلك هم شرهون بإفراط، تقودهم غرائزية وضيعة، وستجد أن كبيرهم كما صغيرهم كذّابون ومنافقون، المعمّم
“حرص المحتل الأميركي على توفير فرص الفساد، وتشجيع الانحرافات الأخلاقية والسلوكية داخل مؤسسات الدولة ومفاصلها” الصعلوك والعلماني المتبختر سواء بسواء، وشهيتهم مفتوحة على كل شيء: الأموال العامة والأطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة”. لينتهي إلى بيت القصيد “وعلى الرغم من المحاذير والمخاوف، أنصح وأؤكد على أن لا تفرّط بأي منهم، لأنهم الأقرب إلى تنفيذ مشروعنا وضمانةٌ مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة، وإن حاجتنا لخدماتهم طبقا لاستراتيجية الولايات المتحدة، ما زالت قائمة، وقد تمتد إلى سنوات أخرى”.
وفق هذا السياق، قضاء حكومة عبدالمهدي على الفساد، وهي نسخة من الحكومات السابقة، مستحيل. وبالتالي، يمكننا التأكيد أنه لا إصلاح على يد هذه الحكومة، اكتملت أم بقيت ناقصة، وإنما يأتي الإصلاح بعد الخلاص من هذه الحكومة وبرلمانها وقضائها وأتباعها ومريديها دفعة واحدة، وليس على مراحل، والإتيان بحكومةٍ وطنية فعلا. ولن يتحقق هذا الهدف المشروع على
يد انتفاضة سلمية أو اعتصام مدني أو تظاهرات مطلبية، ما لم ترفده بوسائل كفاحية أخرى تبيح للانتفاضة استخدام كل ما لديها من قدراتٍ لمواجهة القوة بالقوة، فالشعوب هي سلاح الدمار الشامل التي تخشاها كل قوى الشر والظلام، محلية كانت أو خارجية، ومن يشكّك في هذه الحقيقة أو يقلل من شأنها، بصرف النظر عن نواياه، فإنه يخدم المحتل، ويسهل عليه تكريس مشروعه التدميري إلى عقود طويلة.
من ينكرون هذه الحقائق ويظنون أن أميركا قد أدركت خطأ سياستها التي أدت إلى هيمنة إيران على العراق، وأنها ستطرد، في القريب العاجل، إيران من العراق، وستحل المليشيات المسلحة التي تأتمر بأوامرها، هم في ضلال مبين، فأميركا لم تأت إلى العراق من أجل عيون العراقيين، وإنما جاءت من أجل تدمير العراق، دولة ومجتمعا، وهذا ما يفسّر سر تعاون ملالي طهران مع المحتل الأميركي، كون مخطط تدمير العراق هو القاسم المشترك الأعظم فيما بينهما، ولا تغيّر
“راية الإصلاح ومحاربة الفساد أصبحت بمثابة التعويذة التي يتمتم بها الحاكم بصوت عالٍ، كلما تصاعدت حدة الاستياء الشعبي” من هذه الحقيقة كل الخلافات التي نسمع عنها، والتهديدات المتبادلة بين واشنطن وطهران، فهذه لن تصل قطعا إلى القطيعة، أو الدخول في حرب محدودة أو مفتوحة، وإنما هي مجرّد تصحيح لمسيرة التعاون بينهما التي أخلت بها إيران.
نعم ينبغي عدم الوثوق في هؤلاء الذين جاء بهم المحتل، وأصبح ولي نعمتهم، فقد سمعناهم وجرّبناهم، وفي النهاية كذبناهم، وبالتالي علينا اللجوء إلى الانتفاضة، لتحقيق كامل أهدافها الخدمية والاجتماعية والسياسية، وطرد المحتل، سواء كان أميركيا أو إيرانيا أو تركيا أو غيره. هذه ليست خطبة إمام مسجد في يوم الجمعة، أو خطابا حماسيا في ندوة، ففي تاريخ الشعوب وتجاربها، لم يقدم لنا هذا التاريخ مثلا أن شعبا، مهما كان صغيرا، استسلم لمثل هذه الأقدار، بل على العكس، فإن قوى الاحتلال، ومهما بلغت من قوة، هي التي لم تتمكّن من فرض إرادتها على الشعوب المستعمرة إلى ما لا نهاية. وشعب العراق قد أثبت هذه الحقيقة، فهو رفض الاستسلام للمحتل الأميركي، وشرع في مقاومته، منذ اليوم الأول لاحتلال بغداد، وألحق به هزائم نكراء، كان انسحاب معظم قوات الاحتلال الأميركية واحدة منها، على الرغم من إمكانات الشعب العراقي المتواضعة، والأسلحة البسيطة التي قاتل بها. وبالتالي، سيكون هذا الشعب قادرا على إسقاط العملية السياسية، ودستورها الملغوم، ومحاكمة رموزها، سواء عبر انتفاضات سلمية أو انتفاضات مسلحة. إذاً، لا يمكن لهذا الشعب المظلوم السكوت طويلاً على هؤلاء الحكام الذين أجرموا بحقه، وبحق العراق العظيم.