مشرق عباس
أكثر بكثير من 40 باباً للفساد في العراق، تلك بديهية، وأن يستعرض رئيس الحكومة منافذ الفساد في بلاده في جلسة أمام البرلمان، عليه أن يكون دقيقاً، أو يتجنب في الأساس الخوض في التفاصيل ليحدد ملفات ويهمل أخرى.
لكن المشكلة ما كانت يوماً في توصيف حدود الفساد في العراق، فهو يصف نفسه بنفسه كل يوم، ومع كل بادرة اخفاق اداري واقتصادي وامني وسياسي، وفي عيون كل حديث نعمة قفز برشاقة على سلم اصحاب الملايين خلال بضع سنوات، وعلى منابر الاحزاب والقوى السياسية والعسكرية التي تمتص مال الدولة بلا رقابة وترفض الكشف عن مصادر تمويلها.
لم تكن هناك حاجة فعلية للحديث عن حجم الفساد، بقدر الحاجة إلى رؤية لمعالجته، لاتقف عند حدود الاشخاص، ولا تتسمر مندهشة من حجم ما تمت سرقته فعلاً، بل تمضي بشجاعة لحماية ما يتم التخطيط اليوم وغداً لسرقته.
ولأن العراق غارق في الشعارات الكبيرة المضللة عن محاكمة الفاسدين وسراق البلد، يخشى المسؤول أن يلقي طوقاً للحقيقة، ترعبه الاصوات المطالبة برؤوس يتم تعليقها في الشوارع، ويهتز عندما يقول له مستشاره القانوني أن رموز الفساد التي يتم تداول أسماؤها قد طوقت نفسها بألف جدار شرعي وجدار، واستخدمت كل المنظفات المتاحة وغير المتاحة لتنظيف أموالها وصفحاتها، وألا طريق لمحاكمة السابقين بالطرق التقليدية.
أخيراً.. قرر البرلمان مبدئياً أن يلغي دوائر المفتشين العموميين وهي مؤسسات فائضة أضيفت إلى “هيئة النزاهة” و”ديوان الرقابة المالية” ومؤسسات الرقابة الادارية، وشركات المحاسبة الدولية، خلصت جميعها إلى حقيقة بسيطة مفادها: “أن الأموال التي صرفت لتأسيس وإدامة آليات ودوائر مكافحة الفساد طوال السنوات السابقة، كانت أكبر بكثير من الأموال التي استعادتها، وبالتأكيد أكبر بكثير من صفقات الفساد التي منعتها”.
وليس هذا اتهام لمؤسسات ربما كانت نيات العاملين بها صادقة، بل لأنها تمثل المشهد الأكثر وضوحاً لخلل دائم في البنية الإدارية للدولة العراقية قاد وسيقود إلى الفساد، ولن تحسب الامنيات، والنيات، والشكاوى، والبكائيات السياسية الدائمة من ضمن طرق علاجه.
لا يمكن أن نحلم بعراق تتمتع مؤسساته بالنزاهة على يد أحزاب لا تجيد إنتاج التعديلات الإدارية والقانونية اللازمة لترصين الدولة، بقدر ما تجيد الصراخ اليومي حول الإصلاح.
واقع الحال، أن مهمة صنع بعض التغيير في بيئة الفساد الحالية، لا يمكن تسليمها إلى نواب البرلمان العراقي، ولا لوزراء الحكومة، بل إلى مختصين عراقيين ودوليين يحددون الخلل الإداري، ويقترحون تعديلات إدارية وقانونية عليه.
لكن المشكلة لن تزول حتماً، لأن الفساد العراقي في أساسه سياسي، يستمد ديمومته من سطوة الأحزاب والشخصيات النافذة في القرار السياسي للدولة، ومن المجموعات المسلحة القادرة على تهديد الموظفين وابتزازهم، ومهما أغلقت الأبواب سيكون بإمكان الشركات الحزبية التي نمت وانتعشت في ظل الوضع المشوه لبنية الدولة فتح أبواب أخرى وأخرى.
لحظة المصارحة التي حاول رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي فرضها في الجلسة الأولى للفصل التشريعي الجديد للبرلمان، ليست سوى لحظة للأسف، ولن يترتب عليها أي فعل حقيقي، تماماً كما لم يترتب على إعلانات رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي عن الاستعانة بشركات محاسبة دولية لتدقيق 20 صفقة فساد كبرى، أي أثر.
الأثر الوحيد الممكن قد يكون في البدء بتطبيق أنظمة اللامركزية الإدارية، بما يشمل التخلص من عبء المؤسسات المركزية الهرمة، ومنح الوحدات الإدارية صلاحيات كافية، تقابلها أنظمة رقابة كافية، لتحمل مسؤولياتها بحسب الدستور، ومواجهة جمهورها بالحقائق.