علي عقلة عرسان
يدهشني تسارعُ التَّردي واتساعه في واقعنا المُتردي، أنظر فيقشعر بدني، أقرأ فيرتجف قلبي، أسمع فتتقلَّص خلاياي وأكاد أقذف أحشائي خارج جوفي.. موج الفساد والإفساد في العالم يضرب بقوة، ولكنه في بلداننا يضرب العباد بقسوة ما بعدها قسوة، ومن يُفتَرَض فيهم أن يتصدوا لذلك المَوج ذي الهياج، يتحركون كأنهم سماؤه الصافية، ورياحُه الدافعة، وأشرعتُه المرفوعة. الفساد والإفساد بأنواعهما “السياسي، والمالي، والإداري، والأخلاقي، والاجتماعي، والإعلامي، والثقافي، و..” يمضي إلى ازدهار، وفي هذا بؤس ودمار ومجلبة للفوضى والهُزال والعار.. والمفسدون جيش يشبه الفئران الولودة.. تكثر وتكبُر في زمن الفتنة والمحنة هذا.. جُرذانه المُنذرة بالطاعون سمينة وجريئة، تتجاوز مكامنها وتغزو الناس في الليل والنهار، مبشِّرة بمرض الأمراض “الطاعون”، حاملة له، وناشرة إياه في الأنفس والبيئة وفضاء العيش، مفسدةً مناخ الحياة بكل كائناته ومكوناته وأبعاده ومقوماته وقيمه.. تستبيح ما لا يُستباح، وتنذر باندثار قيم وهِمم، وبشرور أنفسٍ أمَّارة بالسوء، وبما يحدث فسادا في الأرض، ويُهدِّد الرّوح، ويطول الأخلاق هَتكا وفَتكا وإنهاكا، وبما يُناوشُ الوجودَ الحيوي للمجتمع ذاته، ومِن ثمَّ حيوية الأمة ومكانتها وبقاءها.. إذ قوة الأمم ورفعتها مرتبط بمتانة البنية الأخلاقية إيمانا واعتقادا وتعاملا وممارسة واحتكاما وغاية، أوليست ذروة الذرى في رسالة الإسلام مكارم الأخلاق، كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”..؟! والأخلاق هي جوهر قدراتها وسر من أسرار بقائها.. كما قال أحمد شوقي:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيَتْ فإن همُ ذهبَتْ أخلاقُهم ذهبوا..
ومن أسف أن للفاسدين في إداراتنا ومعاملاتنا وأحكامنا ومناحي حياتنا، وفي ساحات وجودنا ومواقع عملنا، قلاعا وأبراجا وأسوارا وصهيلا.. إنهم يسرحون ويمرحون بعافية واقتدار وأمان، ويستبيحون ما يستبيحونه بقسوة وثقة.. كل الآفاق مفتوحة لهم من خوف أو ردع يفضيان بهم إلى تردّد أو تقلُّصٍ أو انكماش. وقد أصاب الفسادُ المنطقَ والرؤية عند محاكمة الأمور، وعشَّش في أنفس مسكونة باستعدادات مَرَضيّة، وبأمراض مُعدية خطيرة، منها التعصب بأنواعه، والعُصاب المَذهبي والطائفي والعرقي، والإقبال على الغُلوِّ والفتنة وادعاء العصمة، واللغو الذي لا يحكمه عقل ولا ضمير، يسيء، ويمضي إلى السّفه والمُسافهة.. وكل هذه الأعراض والأمراض تشكل حواضن للفساد، وتسهم في تغييب القدرة على الرؤية الصحيحة والتشخيص السليم، وعلى الحكم القويم الحكيم على الممارسات والعلاقات والشبهات التي ينتجها ويعمل في فضائها، وتفعل فعلها في القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة وتطبيق الإجراءات الناجعة التي من شأنها أن تلجم الفاسدين وتحدَّ من الفساد، وتمهد للقضاء عليه.. الأمر الذي يجعل الحال من سيئٍ إلى أسوأ، والمُعاناة في تفاقم مستمر، ويراكم الشكوى من الضائقات والمظالم والأزمات، ويحول دون الوصول إلى تحقيق إصلاح فعلي، ودون السير في مسارات سليمة تؤدي إلي تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية توقف التردي، وتخفف المُعاناة، وتنهض بالمجتمع شيئا فشيئا.
للفاسدين منطقهم وأساليبهم ومعاييرهم وفتاواهم.. هم يقيسون الأمور والناس على أنفسهم، وعلى ما يستبيحون من سلوك وفعل، وما يعمدون إليه من انتهاكات.. فيخرجون بأقوالٍ وأحكام وتحليلات مهولة في سطوتها وتدنِّيها ورواجها.. نعم إنها تنم عن تكوينهم ومعاييرهم وعما يتفاعل في أعماقهم، وتصرخ بما يختارونه من أساليب، وما يستبيحونه من وسائل وأدوات، وما يستهدفونه من حُرُمات ومحرَّمات في أدائهم واعتدائهم ومواجهاتهم ومخاصماتهم.. لكنها مدمرة للمجتمع والدولة من جهة، وتفتح أمام ضعاف النفوس والقيم سُبُلا مهلكة يرونها النجاح و”الشطارة” والفطنة والدهاء؟! فيقبلون على ما أقبل عليه الفاسدون لأن فيه مكاسب ونفوذا وغنا، وعيش ونماء في ظل أمن من جوع وخوف؟!
تلك مأساة لا تتوقف عند غياب الضمير الحي النظيف لدى كثيرين، بل تتعدى ذلك إلى شلِّ قدرة الصالحين والمصلحين والطيبين والشرفاء والأنقياء والأتقياء على التدبر والتصرف والتحرك، وعلى الوقوف بوجه ما يدمر الدولة والمجتمع وحياة الناس ومقومات وجودهم وعيشهم ونهوضهم وكرامتهم.. ذلك لأن الفريق الفاسد المتعفن يتهم الآخرين بما لديه، يتهمهم بما هو أكثر من التعفن والفساد، وينهج نهج الآخذين بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، فيسيء إلى من يقف بوجهه ويعمل على تدميره.. إنه يفجُر ويفتري، ويستبيح كل الأساليب والأدوات والممارسات، ويفعل كل ما بوسعه لتلويث غيره وقتله معنويا وماديا من دون رحمة.. ويتمادى في ذلك أكثر وأكثر كلما رأى تراجعا لدى الفريق الثاني، ذاك الذي لا يأخذ بما يأخذ به الفريق الأول من استباحات وأساليب.. لأنه لا يوجد لديه استعداد للنزول إلى المستوى المتدني من السلوك ولا الدخول في المسافهة، ولأنه يحرص على عدم تلويث ذاته وسمعته وضميره ولسانه، ولا يرضى لنفسه اتباع النهج الذي يفعله الفاسدون، باستباحة مدمرة للقيم ولكل نهضة وبناء، فهو إن فعل فعلهم صار منهم على نحو ما.. إنه ينأى بنفسه حتى لا يغرق في المستنقع الآسن، ولكي يتجنب افتراء واتهاما يشوهان صورته وفعله ومبادراته. وهناك من بين أشخاص هذا الفريق، مَن ينأى بنفسه عن المسافهة وهذا النوع من المواجهة كليا، في رفض لها ولما تجرّ إليه من مواقف، وما ترتب عليه من تكاليف. وهكذا يصبح السائد من الأحوال المريضة، أفضل حال وأوسع مجال لدوران عجلة الفساد والإفساد بيسر وسرعة، ولتكاثر الفاسدين، ولجعل عملهم يتم من دون عوائق؟!
في هذا المناخ، وضمن هذه المواصفات للفعل وردود الفعل، في مجتمعات مُصابة بكوارث وآفات وأمراض وأزمات، وبأشكال من الظلم والقهر والبؤس والفقر والخراب.. يكتسح المفسدون القيم والقوانين والمعايير والأحكام والحكَّام، ويُحيِّدون مَن يتبقَى من مسؤولين نظيفين طيبين ويلجمونهم لجما قويا.. وفي هذه الأحوال أيضا يتضخم السؤال الممضُّ، ويبقى قائما ومُلِحا: “ما العمل والحال هذا الحال، وقد تلاشت قدرة الناس على الاحتمال”؟!.. ويبقى ذاك السُّؤال المر معلقا في فضاء الوقت، يفتك بأنفس وإرادات وأرواح.
كثرة هم الذين يشكون من الفساد، وكثرة من يدّعون أنهم يحاربونه، وكثرة أيضا مَن يشهرون سيوفا في الفضاء السياسي والإداري والاجتماعي والإعلامي والثقافي ضدَّه، ولكنه يزداد ويزداد، ويسمن ويكرج.. ويبقى سرُّ ذلك من دون مقاربة علمية جريئة واعية جادة وحازمة ومسؤولة أخلاقيا واجتماعيا.. وتبقى السُّلَطُ التي يناط بها أمر المُساءلة والمحاسبة والملاحقة وتنظيف الإدارات والمعاملات والأوساط كافة من الفساد والفاسدين والمفسدين، تلك التي عليها أن تُصلِح ما أمكن الإصلاح، وأن تُخرج الدولة والشعب من بين أنياب الفاسدين المفسدين، تبقى “بئرا معطَّلَة وقصرا مشيد”، كأنها منخورة بشكل ما، وكأن السوس منها وفيها، وأنها هي مَن يحتاج إلى تنظيف وتعقيم وإصلاح.. ويتناهى إلى المرء، المواطن، الكائن الإنسان هاجسٌ مُقلق ينهشه أو يستقر فيه، شاء ذلك أم أبى.. يتناهى إليه أنه “العَجز، أو الشراكة، أو نسج على أنوال الفاسدين خوفا أو طمعا، طاعة أو كرَها”؟!.. يتناهى إليه ذلك وينهشه القلق والألم، بصرف النظر عن الادعاء والرُّغاء، وهدير زاعمٍ وما زَعم.. وكأن السُّلَط التي تداوي، تداوي بالتي كانت هي الداء.. إنها تعمل ولكن ماذا، وكيف؟! إنها تفتح ملفات خاصة للفاسدين، تحصيهم عددا، وتعتقد أنها بذلك ملكت رقابهم، ويمكنها أن تبدِّدهم بِدَدا.. فتغريهم بحماية إن هم قللوا من الجشع ووالوها واتبعوها وأطاعوها وأعانوها.. عند ذاك يتمسكن مِنَ الفاسدين المفسدين مَنْ لم يتمكَّن، فتظن أنها ملكتهم وما يملكون.. لكن، لا يلبث الغطاء أن يتكشف عن عجينة واحدة تتخمَّر في معجنها، هم في قبضتها وهي في قبضتهم، “تابعون ومتبوعون، ولاة وموالون”، والكل ضدَّ مَن يشكو ولا يطيع؟! وهكذا يزداد الطين بِلَّة، ويصبح الفساد إفسادا ممنهجا، ونهجا وغولا وتغوُّلا وما شئت أن تقول فيه، ويؤول الوضع الذي آولوا إليه أو الذي أوصلوا الناس إليه.. إلى وضع مأساويٍّ، ويصبح علاجه الرَّسمي، وشبه الرَّسمي، وغير الرَّسمي.. شبيها بحال تلك العجوز الحيزبون وسبل معالجتها لوضعها، تلك التي وصف إعرابي وضعها وحالها وسعيها للتجمل والمعافاة بقوله:
عَجوزٌ تَرَجَّى أن تعودَ فَتيَّة
وقد لَحِبَ الجَنْبانِ، واحدَودَبَ الظَّهرُ
تَدسُّ إلى العطّارِ مِيرَةَ أهلِها
وهلْ يصلحُ العطارُ ما أفسدَ الدَّهرُ؟!
إن الوسط الفاسد بيئة حاضنة للفساد، ومَفْرَخة للفاسدين.. هناك يفرِّخون ويكبرون، بحماية ورعاية، ويستثمِرُ فيهم ويستثمرون فيه.. والمرء الذي يعيش في ذلك الوسط أو يُفْرَضُ عليه أن يعيش فيه، ينالُه منه ما يناله، في عيشه وآماله، ولا يستطيع اعتزال المجتمع، “الحياة”، فالقول عندنا إن “الجنة من دون ناس لا تُداس”، على عكس قول جان بول سارتر ومن قال قوله: “إن الجحيم هم الآخرون”.. وشاعرنا المعري رحمه الله يقول:
ولو أني حُبيتُ الخلدَ فردا…
لما أحبَبتُ بالخُلد انفرادا
والإنسان، على حد قول بعض المعرِّفين له وبه، “حيوان اجتماعي”، وليس حيوانا ناطقا أو مفكرا وحسب.. وهو حتى لو أراد، ونأى بنفسه عن الجماعة نسبيا، لن يسعد من دونها، وربما يشقى وهو فيها وبسبب منها.. ولن ينجوَ من رياح الشر التي تهب عليه من أصقاعها وجهاتها، ولا مما يشكل مناخ تلك البيئة ومقومات المكان والعيش فيه.. تلك معادلة العيش جماعة، إنك تأخذ وتعطي، تَشقى وتُشقي.. ولا تستطيع العيش هانئا مكتفيا بذاتك خارج المجتمع، بعيدا عن وسط اجتماعي نشأت فيه، وانغرست في تربته، وتنسَّمت هواءه، إذ لا بديل لك عنه، وإن استبدلته مُختارا أو مُكرها عانيت، وربما شقيت، فكيف بك تعيش خارج أي مجتمع، وأنت بوصفك فردا نُواة المجتمع؟! .. إن الأنقياء الأتقياء الطيبين، من ذوي الضمائر والأرواح الخيرة، والنيات الحسنة، ومَن يعيشون من عرق جبينهم وكَدّ يمينهم.. يعانون في وسط فاسد يسود فيه مفسدون ومفترون وطغاة.. كثيرون من أولئك يعيشون حالة اختناق في الزمان والمكان، اختناق من ضنك العيش ومن فقدان الحرية في التعبير عما يجول في العقل والضمير.. بعضهم يشبه شَتْلَة ريحان أو شتلة نعناعٍ ندية خضراء في خضم من شوك صحراوي في بريَّة مترامية الأطراف.. وبعضهم يصدق فيه القول الكريم: ﴿.. أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ ﴿٢٤﴾ تُؤتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذنِ رَبِّها وَيَضرِبُ اللَّـهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرونَ ﴿٢٥﴾ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ ما لَها مِن قَرارٍ ﴿٢٦﴾ يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظّالِمينَ وَيَفعَلُ اللَّـهُ ما يَشاءُ ﴿٢٧﴾ – سورة إبراهيم.
تلك حالة مأساوية، لكنها حالة بشرية تكتسح الأكثرية.. فمنذ القِدَم وحتى اليوم وإلى الغد وما بعده، شكا الناس ويشكون وسوف يشكون من ظلم واضطهاد وقهر وبؤس وفقر وفساد وإفساد.. مِن الرشوة والقوة والقسوة، من الافتراء والنفاق والفجور والتَّدليس، من تدنيس الرُّوحي والضمائري والعقلاني والمقدس.. لقد عانوا من ذلك ويعانون وسوف يعانون، فقابيل موجود وهابيل أيضا.. وبعضهم يعيش العمر كله عيش البريء المقتول، والأُضحية على عتبة المذبح، “مضطهَدا ومتهما وفقيرا وأسيرا”.. وبعضهم يتحكم بالأضحية والعَتَبة والمذبَح والسِّكين على المِحَزِّ.. ويحتكر المال والأعمال والأقوال، ويعيث في الأرض فسادا، ويعبث بالأرواح والدماء والعمران..؟!
عالمنا عالم التناقضات بلا ضفاف، عالم المعاناة والتفاوتات والتضادات بلا ضفاف أيضا.. ومع ذلك يعيش البشر في مجتمعات، يكوِّنون الدول والمجتمعات، ينهضون بها ويموتون من أجلها، يبنونها ويفسدونها ويفسِّخونها، ويجددون العيش في دول وجماعات.. يحب الواحد منهم بيئة العيش التي اعتادها، حتى لو كانت في بلاقع من الأرض.. إنه حب الوطن، و”حب الوطن من الإيمان”، والوطن أناسه وهويته ومضامينه وليس الأرض والمناخ فقط. تدور عجَلَة الحياة وتدور وتدور، ويتداول البشر المواقع والمنافع والدول، ولحكمة كان وما سيكون..﴿.. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴿٢٥١﴾ – سورة البقرة..
فسبحان الله العظيم، وصدق قوله الحكيم.