ا. م. د. سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الاداب/ جامعة الموصل/ العراق
في البداية سيكون علينا إعادة ضبط العالم والبدء من جديد بـ ” الحب للجميع العقل للجميع والعيش للجميع ” . والمسألة ليست بسيطة .. وهناك قيم اخلاقية انسانية فوق كل شيء .. ويجب علينا الالتزام بهذه الأخلاقيات.. انه الصراع الأبدي بين السلطة والقوة .. لقد أنشأنا حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف .. وعلينا الرجوع إليها ومراجعتها.. ولكن هناك أيضا بركماتية الحكم غالبا ما يتم التذرع بها .. المشكلة الحقيقية هي إلى أي مدى؟
فنحن اليوم نعيش حالة من التأزم على مختلف المستويات سياسيها واجتماعيها واقتصاديها وفكريها، إلا أن أقل الأزمات عناية بها أزمتنا على مستوى الفكر والوعي، فبلد كالعراق بضخامة موارده، واستراتيجية موقعه، يستغرب المرء من تأزم حاله وتردي أوضاعه، كما أن أغلب الحلول تتجه إلى معالجة أعراض الداء دون أصله، فسبب وصولنا لهذه الحالة من التزعزع والاختلال ليس الصراع على السلطة، وإنما سببه قلة الوعي.
ولذا شكا الغزالي من غياب الوعي عند الامة، فقال: الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الاسلام في شيء، اذ الغباء في ديننا معصية.
ولكي يباع الغباء ويسوق الشقاء يكفي ان نجد لذلك صيغة. هكذا غنى الغرب سمفونية الحداثة على وجه القمر.
والشمس التي رافقت ابن رشد الى ان تجاوز وادي الشرق الكبير تركته في مغيب الغرب يغرق في التنوير ويتمتع بنعومة الحداثة السائلة.. جعلته يحاور الوجود بلغة الوعي، ولذلك يتعين علينا استعادة هذه اللغة ومنحها الكلمة من اجل الشهادة على جرائم التيار الظلامي الذي قام بتخريب روح العصر. فقد ظل سؤال الوعي مقلوبا لان العدمية مزقت الكينونة ولم يعد الوجود سوى مصدر للوهم والفزع.
ففي عالم مشحون بظواهر الظلم التي تمزق كبد العاقل كما يتمزق قلب المؤمن من دلالات الفسوق والتفريط في المقدسات على مذابح الشهوات، يستهلك الضمير ويصبح العرى الفكري والأخلاقي سمة العصر بامتياز.
تحول العالم إلى لعبة كونية خطيرة تحكمها القوانين السائلة ونهايات اللايقين.
بيع الضمير العالمي في العلن، وحين سرق رغيف الجوع اجمع الساسة على استباحة طينه واجزموا بمصيره إلى سجون العذاب.
وها هي الارض تفرش عناءها على منصة الزمن تتقصى خطى الضمائر وتحمل الإنسان فينا أمانة.
فحين رمى عقل الحداثة الغربية موقفه من الوجود استيقظ نتشة قائلا:
أين الإله؟ أنا سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه أنتم وأنا!! لكن كيف فعلنا ذلك؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له؟ ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي؟
لذلك تبدو العودة إلى مراجعة الوعي بالذات ضرورة ملحة لبحث جذور الازمة التي نعانيها.
فمعظم الرؤى والتصوران التي يتبناها خطابنا الفكري متطرفة وغير مكتملة بل ومثيرة للسخرية..
لذلك بقيت انسانيتنا مهدورة من قبل الطاغية المتسلط. وهذا كله تحركه الخلفية المعرفية للغرب بكافة ابعادها السلطوية وتغذيها النزعة الامريكية العابرة للقارات.
وهكذا نتيجة الشعور بالياس يحاول وعينا المؤدلج ان يخضع حياتنا للمصادفة وينفي لدينا الشعور بالمسوؤلية والوعي بحقيقة الوجود.
كل هذا ادى الى انهيار المستقبل ذلك البعد الانساني المهم واصبحنا نحكم الظن والاحتمال.. وهذا ما يفسر عداواتنا وحروبنا الطائفية وقلة وعينا وحيلتنا وهواننا على العالم.
هكذا تنتصر العقلية الامريكية وايديولوجياتها… اما نحن فبقينا نجتر نفايات الفكر الغربي ونعمل على تسويق بضاعته المستهلكة. ولو تم رفع هذه الوسائل والتقنيات لانكرنا الزمن ذاته ولثبت شرعا وعقلا اننا لا نستحق العيش.
فمن دموع ضحايا القتل والتهجير تغتسل الحرية لتصلي صلاة الغائب على العقل الشرقي..
من دماء الشهداء والمعذبين ترسم خارطة العرب والمسلمين… من حيرة المثقف الناظر في وجه السياسة البغيض يكتب مستقبل الامة..
كما ان واقعنا الغائب اللاجيء الى الغرب مرجعيتنا فيه جحافل النازية وخليفتها الفاشية، نتقمص على اسواره بشاعة الشوفينية ووظاعة الليبرالية الصهيو أمريكية…
ونحن في وسط هذا التيار العنيف نتنفس الالم من بشاعة الكوارث التي سببتها اسطورة اللاوعي المدمر.. فمن الصعب ان نعقل في حضارة الجنون الوحشي المستعر.
ونحن امام المسرح العالمي المخيف نشاهد على خشبته الاحداث المرعبة من تطرف وعنف وارهاب… جماعات وعصابات منظمة وممولة لاثارة الفتن والمشاكل، شركات احتكارية عابرة للقارات، شعوب مهددة بالابادة والتهجير.
وهكذا تتبدد أوهامنا في قصة الحضارة، حتى النظام الأخلاقي والروحي تزيحه فوضى اللاحتمية، فالكون عقلاني بنسبة ضئيلة جدا.
اما التقنية والتكنولوجيا المعاصرة والتي افلتت من كل السلطات بدأت تستهدف جينات الانسان الحقيقي ، تستهدف كل ما هو اخضر وجميل..
وليس مستغربا ان يكون التكبر والتجبر والظلم شعار الأخر، لكن المستغرب والأغرب وعينا المعطل بحقيقة الواقع. نغني الحرية وصدورنا تتشظى أنينا من أعظم أنواع القهر والأسر والعبودية. تنهشنا وحشية الإيديولوجيات بأفكارها الهدامة المحظورة إنسانيا. والتي لا يمكن النيل منها وكشف أسرارها وأبعادها ومخططاتها إلا عندما نحمل شعار ” فلنتفكر” بمداد ” العقل والايمان”، الوعي والانسان.
إذا نحن بحاجة الى الوعي روحيا وماديا لنتمكن من اليات النهوض، نستثمر الذات الانسانية في الوجود فنتوسع داخل فلك الحضارة.
وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار الى حتمية النهوض في مسار الحياة العالمية.
هذا التحول يتزامن مع رؤية عقلية عالمية تمتلك بصرا حادا يغوص في الاعماق لينتشل سر كينونتنا الغامض …
إن الفعل والزمن الحضاري مدعوان لتغيير المسار، فطعم الحقيقة المطلقة أسعد وألذ من طعم الحيرة المعذبة. وحين تعرف الحكمة وتعترف بطريق الحقيقة، فإن العقل سيعرف الطمأنينة والراحة النشطة، وسيعرج في مداءات ليست غريبة عنه ، إنها دعوة للخروج بالعقل من محنته في الغرب، حين يكون العقل انتقائيا حين يكون عقلا للاحتلال، والبحث الدؤوب عن عقلنة التوسع من أجل السيطرة والأسواق.