شكر خلخال
شكر خلخال هو كاتب وإعلامي عراقي، عمل في الصحافة العراقية والعربية لسنوات عدة. وهو ايضا مهتم بشؤون العراق والثقافة العربية والتاريخ الإسلامي، وعمل في مجال الإنتاج التلفزيوني كاتبا ومنتجاً للعديد من البرامج التلفزيونية والأعمال الوثائقية.
من المنتظر أن يواجه رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي استجوابا في البرلمان العراقي حول الوجود الأميركي في العراق. هذه سابقة أولى من نوعها، وما كان لها أن تحدث لولا تزايد قوة ونفوذ الأحزاب المدعومة من قبل إيران والرافضة للوجود الأميركي في العراق. لقد أصبح الساسة المعتدلون الذين يمثلون قاعدة التحالف مع الولايات المتحدة، يجدون أنفسهم في وضع حرج، إذ بات من الصعب عليهم الدفاع عن تصوراتهم حول أهمية الحليف الأميركي وضرورة تواجده على الأراضي العراقية، وذلك تفاديا لتكرار تجربة عام 2011، وما تلاها من تدهور في الوضع الأمني الذي انتهى باحتلال تنظيم “داعش” لثلث الأراضي العراقية. ومن ثم، فان عدد الذين يشككون في الدور الأمريكي ودوافعه في المنطقة لا يجب أن يستهان به. هذا التطور الدراماتيكي في البرلمان العراقي لم يأت بمعزل عن خطاب الرئيس الحالي للولايات المتحدة دونالد ترامب الذي ساهم جزئيا في تشكيل العلاقات الأمريكية – العراقية.
ألحقت العديد من التصريحات التي أطلقها الرئيس ترامب، والتي يعود تاريخها إلى حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2016، ضرراً كبيراً بصورة الولايات المتحدة كحليف رئيسي ضد تنظيم “داعش”. فخلال حملته الانتخابية، أعلن الرئيس ترامب أن سلفه باراك أوباما هو الذي خلق تنظيم “داعش”، وهذا أعطى مصداقية لنظرية المؤامرة الخارجية التي تسيطر على قطاع كبير من العقل الجمعي في العراق ومنطقة والشرق الأوسط.
ونتيجة لذلك، لم يعد ذلك الاعتقاد بأن “أميركا هي التي صنعت تنظيم “داعش” مجرد “خرافة” يتداولها البعض، بل تحول في الشارع العراقي والإسلامي بشكل عام، إلى “حقيقة” مؤكدة بلسان الرئيس الأميركي نفسه. وأبرز مثال على هذا النمط من التفكير هو القول بأن الولايات المتحدة تستخدم تنظيم “داعش” لخلق اضطرابات بين مختلف شرائح المجتمع العراقي، حيث انتشر ذلك أيضا في الأوساط السياسية العراقية على أعلى المستويات، حتى وصل الأمر بنائب رئيس البرلمان العراقي حينها، الدكتور همام حمودي، إلى أن يصرح بها دون تردد خلال الدورة 31 لمؤتمر الدول الإسلامية في إيران في عام 2017.
دون شك، كان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى سرعة صعود التيار المعادي للتوجه الأميركي في العراق والذي بدأ بالضغط على الحكومة لإجبارها على اتخاذ موقف رافض للوجود الأميركي هناك. ويبدو أن رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي قد أصبح محاصراً من قبل هذا التيار حيث تجلى ذلك في إقدام لجنة الأمن والدفاع البرلمانية على منحه، أواخر الشهر الماضي، مهلة عشرة أيام لتقديم إحصاءات دقيقة عن القوات الأميركية في العراق. وقد هددت اللجنة أنها في حال لم تحصل على المعلومات المطلوبة، فإنها ستقاضي عبد المهدي بدعوى التستر على “عدد القوات الأميركية في العراق”. وقد بدأ التحضير لاستجواب رئيس الوزراء في البرلمان بعد انتهاء المهلة.
ومع ذلك، بدأ الوضع في التفاقم، حيث أثار تصريح ترامب الأخير في بداية شهر شباط /فبراير الماضي، حفيظة الشعب العراقي، حين أعلن أن الولايات المتحدة ستحتفظ بقواعدها في العراق بغية مراقبة إيران عن كثب. ومع ذلك هناك منطق واضح وراء تصريح ترامب، فالعراق بالنسبة للولايات المتحدة يشكل الممر الاستراتيجي الذي قد يمكنها من خلاله السيطرة على تحركات إيران في المنطقة وأنشطتها النووية. والإبقاء على التواجد العسكري الأمريكي في العراق سوف يساهم بالطبع في قطع الاتصال بين إيران وأذرعها في سوريا ولبنان. ومع ذلك، فإن صياغة هذا الاهتمام الاستراتيجي بهذه الطريقة العلانية يعكس عدم احترام سيادة العراق. كما يبدو من تصريحات ترامب أيضا أن الولايات المتحدة لا تعير اهتماما للإرادة العراقية، وأنها تستخدم أراضي العراق كـ “منطلق لمحاربة دول الجوار”، علما أن هذا الأمر محظور في الدستور العراقي الجديد.
ونتيجة لذلك، تصاعدت المطالبات بإبرام اتفاقية جديدة تنظم الوجود العسكري الأميركي في العراق. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حيث طالب بإخراج القوات الأميركية من العراق بشكل كامل. فمن جديد، يتسبب هذا الإعلان في إحراج الحلفاء هناك، فيما يعزز موقف أعداء أميركا في المنطقة والذين يبثون الشكوك حول حقيقة نواياها وأهدافها.
وهناك أيضا بعض الترتيبات التي تجرى حاليا داخل البرلمان العراقي للخروج بمشروع قانون ينص على إخراج القوات الأجنبية من كافة الأراضي العراقية، بحلول منتصف هذا العام، بما فيه إقليم كردستان العراق. وجاء هذا المشروع مشفوعا بتوقيع 75 نائبا من جملة 328 نائبا في البرلمان. ويستند مشروع القانون هذا إلى البند أولاً والمادة الخامسة من الدستور الذي يقول” أن العراق دولة مستقلة ذات سيادة تامة على أراضيها، وأن الجيش العراقي هو المسؤول عن أمن ترابه وسمائه ومائه”.
في ضوء هذه الضغوط المتصاعدة، فلا شك أن حلفاء أميركا في العراق، وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه إثر ذلك التصريح. لذلك، كان لزاما عليهم الرد لتهدئة الشارع العراقي المصدوم من ذلك التصريح. وفى هذا الصدد، بث الرئيس العراقي برهم صالح رسائل تطمينية للداخل العراقي يؤكد فيها أن القوات الأميركية موجوه فقط لدعم “مكافحة الإرهاب”، كما نبه لخطورة مثل تلك التصريحات على الحلفاء هناك حين قال خلال أحد المنتديات الدولية في بغداد “لا تثقلوا العراق بقضاياكم. الولايات المتحدة قوة كبرى، لكن لا تسعوا وراء أولويات سياساتكم فنحن نعيش هنا”.
ومن منظور سياسي، قد تعنى مغادرة الولايات المتحدة للعراق الآن انزلاق الأخير في الفوضى مجددا وترك البلد فريسة للنفوذ الإيراني الذي أصبح يسيطر على المؤسسات الحيوية في البلاد. ولم يعد هذا بالأمر بمستبعد خاصة إذا استمرت الولايات المتحدة في تشكيل سياستها في العراق دون أخذ الرأي العام العراقي في الاعتبار، فحلفاء الولايات المتحدة في العراق يتناقصون باضطراد، وينحسرون في زوايا ضيقة.
وتدرك إدارة الرئيس ترامب هذا الأمر جيدا، لذلك تواصل الضغط على تلك الجماعات من اجل تحييد نفوذها. لكن سياسة “كسر العظام” المتبعة في هذا الإطار قد لا تكون هي الأخرى الخيار الأمثل. فهذا النوع من السياسة يستفز قواعد تلك الجماعات ويحفزها على التطرف أكثر باتجاه معارضة التوجه الأميركي في المنطقة. لذلك فإن على الإدارة الأميركية خلق أرضية للحوار مع الجماعات التي تبدي استعداداً للاعتدال، واستحداث شراكة حقيقية قوية مع حلفائها في العراق، تسمح بوضع خطط مشتركة ومعالجة المشكلات وفق المعايير التي تخدم مصالح كلا الطرفين وتحد من النفوذ الإيراني المتزايد هناك.