د. رجب بن علي العويسي
يطرح موضوع الإجراءات الإدارية وسلوك البيروقراطية، اليوم البحث عن آلية عمل وطنية واضحة تتسم بالكفاءة والمصداقية والفاعلية في التعامل مع نواتج هذا السلوك وتأثيراته السلبية على مختلف مفاصل العمل التنموي وجهود الحكومة الساعية إلى تعظيم القيمة التنافسية الوطنية بشأن التنويع الاقتصادي وصناعة البدائل وتعزيز الاستثمارات، وما كرّسه هذا السلوك من بطء في الإنجاز وتأخر في المبادرة، لا تتوافق مع معطيات الثورة الصناعية الرابعة، ولا تستجيب لمتطلبات التنافسية والجاهزية الوطنية في الاستفادة من كل الفرص الداخلية والخارجية في زيادة الاستثمارات الوطنية والاستفادة من التوجهات بشكل أكثر استدامة، انعكس ذلك على مسار العمل وتشويه صورة المنجز الوطني، ومغالطة للمبادئ التي اتجهت إليها المنظومة الاقتصادية العمانية في سبيل معالجة إشكاليات الباحثين عن عمل أو مشكلة تكدس الأيدي العاملة الوافدة وما أتاحته من فرص التوسيع على المواطن بإضافة أنشطة اقتصادية وتجارية وغيرها يمارسها وفق مبدأ التقنين والضبطية، كون التقنين يؤسس لمرحلة القوة والصدارة في تحقيق السرعة والدقة والأولوية في المنجز أو الممارسة المتحققة، وإيجاد أريحية مؤسسية في تحقيق هذه الإجراءات، فتفتح المجال لمزيد من الفرص التطويرية والتنويع في المشاريع والتعمق في فهم متطلبات السوق، وتعميق جانب المسؤولية الاجتماعية للشركات، وليس كما هو حاصل إلى محاولة الدخول في دوامة العمليات الإدارية المتكررة والإجراءات غير المنتهية والتي تدور في حلقة مفرغة بغية التأخير وزيادة الوقت، وهو أمر نعتقد بأنه بات يسيء إلى أي توجهات استثمارية أو مبادرات وطنية تستهدف بناء مشروعات اقتصادية وإنتاجية عالية المردود، ويتيح المجال لبروز العديد من الممارسات السلبية والتوجهات الخاطئة كالمحسوبيات والرشوة واستغلال الوظيفة العامة والمنصف في تحقيق أهداف شخصية وغيرها، كونها معادلة خاسرة ناتجة عن تعاظم أثر أزمتي الثقة والشراكة في بناء أرضية إنتاج صلبة توظف الميزات الجيوسياسية التي تتميز بها السلطنة، والتي تتيح لها فرصا أكبر لتحقيق عوائد اقتصادية من الاستثمارات الداخلية والخارجية، في ظل ما أشارت إليه نتائج تقرير التنافسية العالمي لعام 2018 من نتائج إيجابية على الأمن وبيئة الاستثمار وموثوقية الخدمات الشرطية وهي مكونات أساسية لاستقرار كفاءة الاستثمار وفتح المجال لنمو هذا القطاع.
وبالتالي ما تعكسه هذه الممارسة القائمة على زيادة مستوى التضييق على الاستثمار والإعلاء من سلوك البيروقراطية، من تأثيرات سلبية على كفاءة المبادرات والحزم الإجرائية الوطنية التي اتخذت في سبيل التنويع الاقتصادي، ومدى ما حققه البرنامج الوطني “تنفيذ من فرص في جانب توجيه أولويات الاستثمار، ولكنه في المقابل لم يستطع إيجاد معالجة جذرية تنضوي داخلها كل المؤسسات والقطاعات لحلحلة مشكلة تعقد الإجراءات الإدارية وزيادة العمليات المتكررة بين المؤسسات، وتأثيراته على مسار الشراكات والثقة، سواء في جانب التنسيق والتكامل بين المؤسسات في قطاعات الخدمات والكهرباء والمياه والسياحة والمشروعات الاقتصادية وغيرها، أو ما يتعلق بالاحتياج اليومي للمواطن في الحصول على الخدمات الإسكانية والبلدية والزراعية والأنشطة التجارية والسياحية وغيرها، وسلسلة الإجراءات المرهقة على مستوى المؤسسة الواحدة أو مع العديد من المؤسسات بما تستثيره من حفيظة المواطن وانتمائه الوطني وحالة الامتعاض وعدم الارتياح فيما يعيشه من دوامه المطالب من حيث إجراءات الحصول على الترخيص بين مؤسسة تقبل وأخرى ترفض وثالثة تشترط وهكذا يصبح المواطن في حلقة مفرغة، بالإضافة إلى مدى استفادته من خيارات الدعم التي قدمتها له الدولة عبر الصناديق والمؤسسات التمويلية مثل (صندوق الرفد، وبنك التنمية) نظرا لما يصاحب عمليات الحصول على القرض أو الدعم من إجراءات طويلة وتعقيدات غير مبررة تنم عن ضعف في التنسيق والتكامل وعدم وضوح مسارات العمل بين المؤسسات، مما ساهم في الانسحاب أو التخلي عن تحقيق الإرادة أو التوجه في تنفيذ المشروع في الواقع، مع أنه من المتوقع أن تكون النتائج أكثر واقعية وقبولا فيما لو تكفلت هذه المؤسسات بعمليات التنسيق مع المؤسسات الأخرى لحين حصول التراخيص، ويبقى دور الطالب للخدمة أو المشروع يقتصر على توفير المستندات والبيانات الصحيحة مع دفع الرسوم المالية المقررة في كل الخطوات عبر الأنظمة الإلكترونية المعتمدة. على أنه لم يقتصر هذا السلوك على الداخل الوطني، بل إن ما يتحدث به أكثر المستثمرين غير العمانيين من الخارج ورغبتهم في طرح استثماراتهم في السوق العمانية وما يواجهونه من تعقيدات إدارية وسلسلة متواصلة من المطالبات، أصبح يلقي بظلاله على قدرة هؤلاء المستثمرين على الاستمرارية في فتح استثماراتهم وأنشطتهم الاقتصادية المختلفة في بيئة السلطنة، وما يمكن أن تتسبب فيه هذه الإجراءات من تفويت فرص الاستفادة من السياسات الاستثمارية الخارجية وتعزيز خيارات الدعم المقدمة من الصناديق التمويلية والمؤسسات المصرفية في تمويل مشروعات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
لذلك كان البحث في إعادة صياغة الممارسة الإدارية الوطنية وحسن توجيهها وفق معايير العدالة والمصداقية والموضوعية والتكامل، مرتكزا رئيسيا لتحقيق النجاحات وبلوغ المهنية في المنجز والتقليل من حجم الهدر الحاصل في عمليات التنفيذ، بشكل يضع الممارسة أمام مراجعات مستمرة تستحضر مسارات المرونة والاستدامة والمعيارية والإنتاجية والالتزام والتنافسية في الأداء، في ظل وضوح المسؤوليات، ودقة معيارية المهام، وأدوات القياس ونماذج العمل وأطر المتابعة والرصد، ومقاربات تستشرف التوقعات وتنسجم مع الآمال والطموحات الوطنية، بما يضع المؤسسات أمام تحول جديد في طبيعة الممارسة وطريقة أداء الخدمة، ومنهجية التعامل مع التوقعات المتجددة، وهو المدخل الذي يمكن لمنظومة الجهاز الإداري للدولة ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة ومؤسسات القطاع الخاص والأهلي ومؤسسات التعليم والجامعات، أن تتشارك في لملمة التشتت الحاصل في الجهود نحوه، وأن تعمل على استدراكه في ظل بيئة مؤسسية محفزة وهياكل تنظيمية مرنة، ومنظومة قرارات استراتيجية منتجة، بما يقدم لها فرص قراءة التطوير من زوايا مختلفة، وآليات تتفاعل مع الواقع وترتبط به وتتماشى مع قواعده، فتقلّل من مسألة الاجتهاد وتباعد الأهداف وتضارب التوجّهات، فإن التحدي المالي الذي تواجهه منظومة العمل الوطني الناتج من تراجع أسعار النفط يجعل منه وجود مصداقية واتفاق في معالجة هذا السلوك وإسقاطه من قاموس المؤسسات وثقافة الأفراد، محطة نهوض لصناعة البدائل والابتكارية فيها واستثمار الفرص وإيجاد مداخل استثمارية تبدأ من تعزيز دور الرأسمال الاجتماعي والمعرفي البشري في إدارة برامج التطوير وتفعيل فرص البحث في مواردها، وإدارة ذاتية لخبراتها وتجاربها وجوانب التميز في أدائها، وما يرتبط بذلك من فرص التقارب والشراكة والتناغم في الوصول للغايات الوطنية العليا، وتكامل محتوى الخطاب المؤسسي في توظيف البيئات الرقمية والتقنية والإعلام والموارد والتقدير المجتمعي بشكل يضمن تحقيق معادلة التوازن بين مسارات التسويق للمنجز المؤسسي والمهنية في طريقة تقديم عملياته ونواتجه للمستفيدين واستيعابهم لهذه الإجراءات وتفاعلهم معهم.
وعليه فإن المطلوب في ظل معطيات هذا الواقع، وجود إرادة وطنية في معالجة الإخفاقات الناتجة عن هذا المسار، وخلق قناعات إيجابية ومسارات تصحيحية قادرة على احتواء هذه الاستثمارات وتمكين خيارات الدعم من تحقيق أهدافها، وتسهيل آليات العمل وأدواته على المستثمرين وتقليل فاقد العمليات المتكررة، بالشكل الذي يضمن منها استيعاب التحولات ومجريات الأحداث الاقتصادية الحاصلة في العالم، وما يطرحه ذلك من دور أكبر للمؤسسات التشريعية والرقابية في إعادة هندسة هذا الواقع وطرح هذه المسببات والأسباب والمبررات في القبب البرلمانية وفهم الإشكاليات المتعلقة بهذا الجانب ومن المستفيد منه أو المتسبب فيه، واقتراح سياسات وأحكام تشريعية تعالج هذه القضية عبر مراجعة مشروعات القوانين ذات العلاقة أو اقتراح مشروعات قوانين جديدة تحد من إشكاليات البيروقراطية أو إجراء تعديلات على قوانين نافذة بحيث تراعي مختلف العوامل والمؤثرات وتضع النقاط على الحروف بشأن المسؤوليات المؤسسية والوظيفية المترتبة عليها، بما يؤسس لمرحلة جديدة في التعافي من عقدة الإجراءات والرتابة الحاصلة والتكرارية وعدم وجود إطار وطني متابع لهذه الإجراءات بحيث يشخص واقعها ويضبط مسارها ويوجه المؤسسات نحو آلياتها.
فإلى متى ستظل عقدة الإجراءات الشبح المظلم الذي يطارد النجاح والتميز، ويقف في وجه الإخلاص والمخلصين من أبناء هذا الوطن الغالي في تعامله النرجسي وسلوكه المتعالي والفوقي، مع كل مفاتيح الأمل ونوافذ الإنجاز المشرقة التي نشاهد منشآتها قائمة على الأرض سامقة نحو السحاب في شموخها، عبر ما أفصحت عنه من حزم تطويرية في الموانئ والمطارات والمدن الاقتصادية والمناطق الحرة والمشاريع اللوجستية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتوجهات نحو استخدام الطاقة البديلة والاهتمام بالاستثمار في الطاقات المتجددة وغيرها كثير؛ بينما هي في واقع مؤشرات الإنتاج ونواتج التنفيذ ما زالت غير قادرة على الصعود في سلم الإنتاجية وقوة التأثير الفعلي في الواقع العملي بنفس السرعة في الطموح، حتى ظلت تنظيراتنا وإفصاحاتنا وتصريحاتنا في حلقة مفرغة تتحدث عن طموحات أكبر في توظيف هذه الاستثمارات من أجل تحقيق قوة اقتصادية وتجارية كبيرة تنقل السلطنة إلى مصاف الدول المتقدمة، فيكون لها حضورها في الاقتصاد العالمي، والاستفادة من الشراكات والخبرات العالمية في بناء كفاءة المورد البشري الوطني، وتعظيم القيمة المضافة للمهارات، وتعزيز وجود البرامج والتجارب والمبادرات لصناعة مجتمع منتج قادر على التكيف مع كل المعطيات الاقتصادية العالمية في هذا الشأن، غير أن الحقيقة المؤلمة هي أن تكون عقدة الإجراءات ـ وهي في الأصل الحلقة الأضعف في معادلة الإنتاجية والتنافسية ـ العائق الأكبر أمام استقرار واستمرارية رؤية التنويع الاقتصادي عبر ترجمة هذه الاستثمارات كواقع يلمسه المواطن ويشعر بوجوده في حياته اليومية من خلال استقطاب الباحثين عن عمل، أو توطين الكفاءات الوطنية، أو طرح منتج وطني في الأسواق العالمية يفاخر المواطن به ويعبر فيه عن هويته العمانية “صنع في عمان”.