بل يكرهون الحياة!

1

 
 
د.احمد مصطفى
 
عودة إلى السؤال الذي تردد بعد مجزرة المسجدين في نيوزيلندا ومقتل 50 مصليا مسلما على يد إرهابي أسترالي، وهو ذات السؤال الذي ردده الأميركيون بعد هجمات سبتمبر 2001: لماذا يكرهوننا؟ هو تساؤل استنكاري، بدأه الغرب ردا على ما يوصف بالإرهاب “الإسلامي” لأن منفذيه يرفعون راية الإسلام والآن يتردد بين العرب والمسلمين ردا على موجة “إسلاموفوبيا” وعنصرية يمينية متطرفة في الغرب. ولا نريد هنا الدخول في جدل من بدأ الفعل ومن قام برد الفعل، فذلك التعصب موجود منذ الأزل، وإن اتخذ أشكالا مختلفة. ويعتمد تقديرك للأمر على زاوية النظر، فخلال هذا الشهر الذي وقعت في منتصفه مجزرة نيوزيلندا قتلت منظمة بوكو حرام الإرهابية أربعة أضعاف عدد ضحايا نيوزيلندا أغلبهم من مسيحيي نيجيريا. كذلك مجازر الرهبان البوذيين بحق المسلمين الروهينجا في بورما (ماينمار). وهناك أيضا أندرس بريفيك، الإرهابي النرويجي النازي (الذي يعتبر نفسه وثنيا وليس مسيحيا) الذي قتل 77 من شباب وفتيات حزب العمال النرويجي في مجزرة بشعة عام 2011.
إنما هناك بعض ما يمكن استخلاصه، في محاولة الإجابة على التساؤل الاستنكاري “لماذا يكرهوننا؟”، من أمور عامة. أولا: يلعب الدين ـ ولا أقصد هنا جذر الأديان، سماوية أو أرضية، التي تدعو أتباعها للتسامح والرحمة وإعمار الأرض بالحسنى ـ دورا في تبرير العنف الإرهابي. حتى من لا يدعي أنه يحمل راية الإسلام أو المسيحية أو غيرها فإنه حتى وإن كان معاديا للدين إلا أن موقفه وتصرفه مرتبط بالدين الذي يعاديه ويناقضه (فلو لم يكن هناك دين ما عاداه أصلا). أما من يعتنقون أفكار النازية الجديدة وتفوق العنصر الأبيض وغيرها من الأفكار المتطرفة الإرهابية، ولا يختلفون كثيرا عن “الجهاديين” الرافعين لراية الإسلام فمعتقداتهم العنصرية تلك أقرب للدين بالنسبة لهم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء، سواء من متطرفي المسلمين أو المسيحيين (مثل الايفانجليكال الصهاينة في أميركا ـ ومنهم المايكان: نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو) أو اليهود العنصريين في إسرائيل أو النازيين الجدد أو ما يسميه الإعلام الغربي الآن تخفيفا “اليمين المتطرف”، كلهم لا يكرهون الآخر فحسب بل إنهم يكرهون أنفسهم حتى. فمن اختلف مع أفكارهم الشاذة والعنصرية من أبناء جلدتهم أو ثقافتهم يستحقون الموت من وجهة نظرهم لتواطؤهم “مع العدو”. فالإرهابي النرويجي قتل صبية وفتيات نرويجيات، والإرهابيين مدعيي الإسلام قتلوا من المسلمين أكثر ما قتلوا من غير المسلمين. وبالتالي هم يكرهون من ليس على شاكلتهم. وإذا أخذنا في الاعتبار أنهم قلة قليلة جدا من كل جنس ولون ودين فهم يكرهون مليارات البشر، بل يكرهون الحياة نفسها التي ليست على شاكلة عقولهم المريضة ونفسياتهم المشوهة.
وحتى لا يبدو القصد تهوينا من شأن هذا الخطر الإرهابي وتفشيه، ودموية العنصرية والمعتقدات الظلامية، والركون إلى تفسيرها على أنها مرض نفسي أو عقلي نعيد التأكيد على أن هؤلاء ليسوا مرضى تنتفي أهليتهم ليبرأوا من جرائمهم ضد الإنسانية. والدليل أن أغلب جهود إعادة التأهيل، أو “المناصحة” كما تسمى عندنا، لا تجدي نفعا مع أغلب هؤلاء إلا نسبة ضئيلة تترك لنا انتهازيين من نوع آخر يبدون كأنهم تخلوا عن أفكارهم وهم يفسدون في الأرض من ناحية أخرى (وإن كان بغير القتل والدم).
وهنا يأتي الأمر الثالث والأهم وهو خطورة الأفكار، خصوصا في عصرنا هذا الذي سهلت فيه التكنولوجيا التواصل بين البشر ونقل المعلومات والآراء ـ العاقل منها والشاذ، المتسامح والمتعصب المتطرف، … ولا يمكن أيضا التبسيط المخل بإلقاء اللوم على التكنولوجيا فحسب كما يفعل البعض ركونا للأسهل والهروب من مواجهة علل مجتمعاتنا المعاصرة. فهؤلاء الكارهون للحياة لا يتطرفون فقط بسبب الإنترنت، وإن كانت سهلت انتشار تلك الأفكار الظلامية الدموية، إذ إنهم موجودون من قبل هذا التطور التكنولوجي الهائل الذي يفترض أن يسهل حياة الناس وينشر النور والتقدم وليس العنصرية والكراهية والتخلف. وأتصور أن الأهم والأكثر تكثيرا هو ممارسات رجال الدين والسياسة، الذي تغلب على بعضهم الانتهازية المقيتة فيوفرون الوقود الأساسي لتلك الأفكار الظلامية الكارهة للحياة. فرجال الدين الذين يشوهون الجوهر الحقيقي للأديان، المفترض أنها نواميس لعلاقات البشر ببعضهم وبحياتهم الدنيا لإعمارها وتطويرها، لا يختلفون عن السياسيين ـ من اليمن واليسار على السواء، وليس يمينيين فحسب كما هو سائد ـ الذين تحركهم الانتهازية والفساد ليرفعوا شعارات تغذي التطرف والإرهاب.
وعودة إلى ما سبق وذكرناه في هذه الزاوية من أن تكدس السياسة في الغرب الديموقراطي في الوسط (يمين الوسط ويسار الوسط) زاد من وتيرة التطرف على الهامش في تلك المجتمعات وتبني أفكار شوفينية (قومية كانت أو دينية) تتسم بالعنصرية وكره الآخر. ولا يختلف ذلك عن بعض رجال الدين الذين يروجون لأفكار ظلامية ليست من جوهر الأديان ـ سماوية كانت أو أرضية ـ في شيء. كلا الفريقين يوفر الوقود الأساسي لنمو التطرف والإرهاب، والأشد خطرا أن يوكل إلى هؤلاء “إعادة تأهيل” الأجيال الجديدة من الإرهابيين والمتطرفين الذين أسهموا هم في تطرفهم. فليكن خط المواجهة الأول هو عزل وإبعاد هؤلاء السياسيين ورجال الدين، وتبني خط التسامح وإعمار الأرض وتطويرها ونبذ كارهي الحياة.

التعليقات معطلة.