الفلسفة مشروع حضارة وقضية انسان

1

ا. م. د. سامي محمود ابراهيم
 
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الاداب/ جامعة الموصل/ العراق
الفلسفة هي العلم الكلي الشامل لذلك سميت أم العلوم حيث أنها تبحث في الموجودات ككل رغبة في معرفة عللها الأولى.
فهي وجهة نظر أو رؤية فكرية شاملة إزاء الحياة والعالم ، ويستطيع الفرد أن يسير في طريق التفلسف إذا وقف من المشكلات التي تواجهه موقف نقدي .
كما تؤدي الفلسفة إلى تنمية الروح النقدية حيث أن النقد العقلي هو عدم التسليم بأي شيء دون اعمال العقل. وتنمي لديه الاستعداد للتأمل وتحفزه على اتخاذ القرار الحر.
كما ان وجود الإنسان يفرض عليه البحث في هذا الوجود ويضع غايته من حياته ولا يمكن أن يتم هذا بغير الفلسفة.
هذا بالاضافة الى ان الفلسفة تبرهن على أن الحقائق التي أنزلها الله تعالى تتفق مع مبادئ العقل، فليس هناك تناقض بين إخلاص الفيلسوف لتأملاته العقلية وبين ولائه للعقيدة الدينية التي يدين بها.
وبطبيعة الحال فان الفلسفة تبحث عن أمراض الواقع ومشكلاته حتى تتمكن من الإسهام في تغييره أو إصلاحه. فهي تهدف من وظيفتها النقدية أن توفق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر.
بهذا نجد ان الفلسفة لا تكتفي بكشف مشكلات المجتمع وتحليلها بل تسعى إلى تقديم مجموعة حلول تساعد على الارتقاء بالمجتمع وتحقيق هدف أسمى هو المحافظة على القيم والمبادئ والأهداف الرئيسية التي تقرها المجتمعات.
فرغم الاختلاف بين العلم والفلسفة إلا أنهما لا ينفصلا فالوجود ينقسم لجانبين جانب مادي يدرسه العلم وجانب معنوي تدرسه الفلسفة ولفهم الوجود ككل لزم التكامل بينهما.
فإذا كان هدف العالم هو الوصول للعلل القريبة للظواهر فإن هدف الفيلسوف هو الوصول إلى العلل البعيدة والمبادئ الأولى للظواهر، وبذلك يلتحم الفيلسوف مع العالم ويعمل على سد الثغرات التي لم يتمكن العلم من ملئها.
كما يعنى التفلسف استخدام المنهج التأملي العقلي التحليلي النقدي في امرر حياتنا الشخصية ولذلك كان الهدف الأساسي من تعليم الفلسفة هو اكتساب مهارات التفكير ، أي كيف نفكر ونحسن استخدام عقولنا في واقع مليء بالفراغ والضياع والعنف والتمرد.
فالنظرة القديمة للفلسفة تغيرت، واختلفت على أثرها وظيفة الفكر الفلسفي من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر، تماشيا مع متطلبات الحياة، وموضوعات الفلسفة هي من المسائل الأكثر أهمية في الحياة. فما يهم الإنسان هو أولا ذاته وحياته وما يحيط به. فقد قيل:”ليست أكبر تعاسة للإنسان أن يجوع أو أن يعطش، بل أن يجهل لماذا يولد ولماذا يموت”.
ورغم أن اغلب مواضيع الفلسفة قديمة فإنها تظل تطرح في كل عصر بسبب كونها أصيلة وجوهرية، وهي تأخذ في كل زمن مظهرا جديدا يتناسب مع الظروف والمستجدات.
أن الفلسفة بنظامها الشمولي الكلي التأملي المثالي تنظر إلى الإنسان على أنه مركز الكون، به صلاحه إذا ما صلح الإنسان ، ولهذا جعلت الفلسفة غايتها وهدفها ووسيلتها هي دراسة الإنسان .
ولذلك اتسع أفق النظر الفلسفي وبدا يحاول محاولات جدية لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة صياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في الثقافة والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة.
والتفكير في التنمية انطلاقا من الإنسان بوصفه مواطنا ذي ذاكرة وتاريخ وقيم، ليس من اختصاص العلوم الدقيقة أو التكنولوجيا، وإنما هو انشغال للفكر الفلسفي بالأساس. إن الانطلاق من اعتبار الإنسان من حيث هو كذلك، هو أساس فهم ماهية الفكر الفلسفي والحاجة إليه. فالعقل الذي كانت تصنعه الحكمة قد ولى وأدبر، وأخذ مكانه فكر يضع الحكمة ويطورها، ينقدها، يفتتها، يعيد تركيبها، يبعثها في ثوب جديد .
أن الفلسفة تمنحنا القدرة على المراجعة النقدية المستمرة لأعمالنا ولمعارفنا وقناعاتنا، وبهذا المعنى يكون للفلسفة أهمية قصوى باعتبار الأهداف التي ترقى إليها، وهي لا تحمل أغراضها وفوائدها في الموضوعات التي تتناولها وإنما في تحقيق الأهداف المرجوة منها باعتبار ممارستها كمراجعة نقدية منظمة ترتقي بالوعي إلى مستوى الوعي بالذات من حيث تفهم الإمكانيات وتجاوز الصعوبات وتنمية القدرات العقلية المختلفة.
فــأهمية الفلسفة لا تلتمس في مادتها، وإنما في تنمية العادات الفكرية والملكات الذهنية المرتبطة بطرق تحليل المعلومة ونقدها والكشف عن مختلف علاقاتها ومستويات تكونها.
وهذا ما يفسر أن الفلسفة لا تتجاوز المواد التعليمية فقط بل هي تتجاوز ذاتها أيضا وذلك بغرض إذكاء جذوة التفكير وشحذ الطاقة الكامنة في كل القدرات الذهنية، بإمكانيات متعددة وشديدة الاختلاف لإتقان الانطلاق في أي اتجاه تحدده الإرادة .
ان الفلسفة تمنح دارسيها القدرة على المراجعة النقدية لأعمالهم ولمعارفهم، وبهذا المعنى يكون للفلسفة أهمية قصوى باعتبار الأهداف التي ترقى إليها، وهي لا تحمل فوائدها في الموضوعات التي تتناولها وإنما في تحقيق الأهداف المرجوة منها.
إذا وقع الاتفاق على أن للفلسفة صفات تميزها عن كل المواد التعليمية الأخرى، فمن البديهي أن يكون لها وضع خاص في سلك التعليم، وكذلك أن يكون لمدرسيها مكانة مختلفة، وأن يمنحوا من الامتيازات والتبجيل والدعم والتقدير ما يناسب الدور المنوط بعهدتهم والأهداف الموكول إليهم تحقيقها. لأن على عاتقهم تحمل مسؤولية تهيئة الأرضية التي يقوم عليها أي تقدم حضاري إذ هم المعنيون برعاية وتهذيب القوى الفكرية وذلك لأن دورهم التعليمي لا يرتكز على العلم أو المعرفة بقدر ما يرتكز على تطوير النشاط الذهني ذاته .
وفي المقابل نجد إن الـشـائـع عـنـد بـعـض الـعـلـمـاء والـفـلاسـفـة الـتـجـربـيـيـن هـو أن تـعدد الـعـلـوم فـي الـعـصـر الـحـالـي وتـفـرعـهـا إلـى مـخـتـلـف مـجـالات الـحـيـاة، لـم يـتـرك لـلـفـلـسـفـة مـن الـقـضـايـا مـا يـمـكـنـهـا أن تـتـنـاولـه بـالـتـأمـل والـبـحـث. ولـذلـك نـجـدهـم يـؤكـدون أن الـفـلـسـفـة فـي هـذا الـعـصـر تجاوزت مـوضـوعـهـا وأصـبـحـت غـيـر ضـروريـة لـلإنـسـان.
وفي المقابل إذا تـأمـلـنـا الـعـلـوم الـمـوجـودة الـيـوم، فـإنـنـا نـلاحـظ أنـهـا عـلـى الـرغـم مـن كـثـرتـهـا مـازالـت بـعـيـدة عـن أن تـحـتـوي قـضايا الـحـياة كـلهـا. ومـن الأمـثـلـة الـواضـحة نجدها في الاسئلة الاتية التي يكون جوابها من اختصاص الفلسفة واهمها:
1 – مـا الـعـقـل؟ ومـا الـمـادة؟
2 – هـل لـهـذا الـكـون وحـدة تـربـط أجـزاءه الـلامـتـنـاهـيـة ؟ وهـل لـه مـن هـدف يـنـشـده وغـايـة؟
3 – مـاهـو الـجـمـال؟ ومـاهـو الـخـيـر؟ ومـاهـو الـشـر؟
مـثــل هـذه الأسـئـلـة وغـيــرهـا لا تـسـتـطـيـع الـعـلـوم أن تـجـيـب عـنـهـا وتـبـقـى مـن اخـتـصـاص الـفـلـسـفـة.
هـذا بـالإضـافـة إلـى أن هـنـاك مـيـاديـن عـديـدة مـازالـت تـابـعـة لـلـفـلـسـفـة كالـمـنـطـق والأخـلاق ونظـريـة الـمـعـرفـة واخيرا الـمـيـتـافـيـزيـقـا.
فـالـفـلـسـفـة تعكف إذن عـلـى هـذا الـمـنـتـوج الـثـقـافـي قـصـد فـهـمـه ومـمـارسـة الـنـقـد عـلـيـه لـتـقـيـيـمـه وتـقـويـمـه، ولـذلـك نـجـد الـيـوم فـلـسـفـات عـديـدة مـثـل فـلـسـفـة الـعـلـم وفـلـسـفـة الأخـلاق وفـلـسـفـة الآداب وفـلـسـفـة الـقـانـون والـفـلـسـفـة الـسـيـاسـيـة والاقـتـصـاديـة.
إن الـفـيـلـسـوف إذن يـحـاول أن يـفـهـم مـا يـجـري حـولـه فـي هـذا الـعـالـم، ولـكـن فـي صـورة عـامـة شـمـولـيـة، ولـكـنـه لا يـكـتـفـي بـالـفـهـم وحـده بـل يـعـمـد إلـى نـقـد وتـقـويـم كـل مـاهـو قـائـم حـولـه مـن أوضـاع وحـالات ومـواقـف. إن الـتـفـلـسـف هـو نـوع مـن المـران الـعـقـلـي، والـنـشـاط الـضـروري لـنـمـاء الـعـقـل واتـسـاعـه وشـمـولـه. والـعـقـل لا يـنـمـو ويـتـسـع أفـقـه وتـزيـد كـفـايـتـه إلا بـمـعـالـجـة لـلـمـشـاكـل الـفـلـسـفـيـة ومـحـاولـتـه أن يـسـتـوعـبـهـا ويـفـهـمـهـا ويـجـد لـهـا حـلا مـعـقـولا يـسـتـريـح إلـيـه، ولـولا أن الـعـقـل مـفـطـور عـلـى أن يـعـالـج هـذه الـمـشـاكـل لـمـا تـوصـلـنـا إلـى مـثـل هـذه الـنـتـائـج الـعـلـمـيـة الـتـي تـوصـلـنـا إلـيـهـا.
ان الـفـلـسـفـة تـهـتـم بـثـلاث قـضـايـا أسـاسـيـة هـي : قـضـيـة الـوجـود وقـضـيـة الـمـعـرفـة وقـضـيـة الـقـيم.
مـبـحـث الـوجـود: وفـيـه تـهـتـم الـفـلـسـفـة بـالـبـحـث فـي طـبـيـعـة الـوجـود، وفـي خـصـائـصـه الـعـامـة قـصـد وضـع نـظـريـة فـي طـبـيـعـة الـعـالـم.
مـبـحـث الـمـعـرفـة: وفـيـه تـبـحـث الـفـلـسـفـة فـي إمـكـان الـمـعـرفـة بـالـوجـود، وحـدود هـذه الـمـعـرفـة وطـبـيـعـتـهـا وأدواتـهـا، وهـل هـي احـتـمـالـيـة أم يـقـيـنـيـة؟
مـبـحـث الـقـيـم: وفـيـه تـهـتـم الـفـلـسـفـة بـالـمـثـل الـعـلـيـا والـقـيـم الـمـطـلـقـة مـثـل الـحـق والـخـيـر والـجـمـال لـمـعـرفـة مـا إذا كـانـت هـذه الـقـيـم مـجـرد مـعـان فـي الـعـقـل؟ أم لـهـا وجـود مـسـتـقـل عـن هـذا الـعـقـل الـذي يـدركـهـا، وهـذا مـا تهـتـم بـه فـلسـفـة الأخـلاق وفـلسـفـة الفـن.
اما مـن حـيـث الـمـنـهـج فان مـنـهـج الـفـلـسـفـة يـخـتـلـف بـعـض الاخـتـلاف عـن الـمـنـهـج الـعـلـمـي فـإذا كـان الـمـنـهـج الـعـلـمـي يـقـوم أسـاسـا عـلـى مـلاحـظـة الـظـواهـر وفـحـص جـزئـيـاتـهـا، وعـلـى إقـامـة الـتـجـارب لـلـتـأكـد مـن صـحـة الـفـروض أو فـسـادهـا، فـإن مـنـهـج الـفـلـسـفـة يـقـوم عـلـى الـتـامـل الـنـظـري فـيـمـا وراء الـظـواهـر الـتـي تـتـجلى بـهـا الـمـوجـودات لـمـعـرفـة مـاهـيتـهـا.
إن الـفـلـسـفـة بـاعـتـبـارهـا تـفـكـيـر تـأمـلـي تـركـيـبـي يـعـمـل عـلـى صـيـاغـة مـعـارف الإنـسـان الـكـلـيـة فـي مـركـب كلي مـنـطـقـي مـعـقـولا، لــيسـت مـصـطـلـحـا لـلـتـعـريـف، بـل هـي أسـاسـا مـوقـف مـن الـحـيـاة، والـوجـود يتسـم بـالـعـمـق والـشـمـولـيـة وبـالـعـمـل عـلـى تـجـلـيـة الـحـقـائـق وصـقـلـهـا عـلـى مر الـزمـن. وهـي إلـى جـانـب ذلـك مـنـهـج فـي الـبـحـث والـدرس والـتـفـكـيـر يـتـميز بـالـتـأمـل الـنـظـري والـتـشوق الـدائـم إلـى مـعـرفـة الـمـجـهـول.
إن الـتـفـلـسـف نـوع مـن الـمـران الـعـقـلـي وإذكـاء روح النقـد والـتدريـب عـلـى الشك والـيـقظـة وطـلـب الـيـقـيـن، والـتـحرر مـن الـتـقـلـيـد والاتـبـاع.
لهذا تـتـمـيـز الـفـلـسـفـة عـن الـعـلـم فـي انها تهتم بـالـكـلـيـات والـعـلـم يـهـتـم بـالـجـزئـيـات، والـعلـم يـهتـم بـالأسـبـاب الـمـبـاشـرة، وهـي تـبـحـث عـن الـعـلـل الـبـعـيـدة.
وإذا كـان الـعـلـم يـسـتـخـدم الـمـنـهـج الـتـجـريـبـي، فـإن الـفـلـسـفـة تـسـتـخـدم مـنـهـج الـتـأمـل والـتـفـكـيـر الـنـظـري وتـمـارس الـنـقـد والـتـقـيـيـم.
لا شك انه ليست للفلسفة تطبيقات عملية مباشرة، لكن هذا أمر طبيعي. فهي تؤثر في جميع العلوم دون أن تحرك ساكنا، كالمهندس المعماري الذي يقوم ببناء بناية والإشراف عليها بأدق تفاصيلها دون أن ينقل حجرا واحدا .
من هذا المنطلق اتضح لنا إن الفلسفة أهم شكل من أشكال الوعي البشري، فهي تهتم بقضايا المجتمع وتطلعات العصر. إن الفلسفة تختلف عن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لأنها ليست دراسة علمية موضوعية لقضايا مجتمع معين، وليست مجرد تشخيص لبعض الأمراض الاجتماعية. إن الطابع العام والشمولي للفلسفة يأبى ذلك. إنها لا تدرس ما هو كائن إلا في إطار ما ينبغي أن يكون .
إن بعدنا عن الواقعية في التفكير والمعايشة سيجعل من ذواتنا أصناما متحركة لا ترضى بجديد ولا تتأقلم مع تطور أو حضارة، وسينتج من ذلك أعاصير من المثالية تهتك حرمة كل إبداع أو تخطيط لبلوغ أي هدف مطلوب .
في بعض الأحيان تجد من يتمنى الوصول إلى موقع مرموق، إلا أنك تصدم بواقع سيره وبطريقة تفكيره، إنها الواقعية متى ما فقدت ترى العجب العجاب، فإن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وذلك هو الحل.
ولهذا السبب نجد الفلسفات الخاطئة تقود عادة إلى طريقة حياة خاطئة. فالإنسان لا يعيش بطريقة عقلانية وصحيحة إلا إذا كان عنده تصور واضح عن حقيقة الحياة .
ولكي نتمكن من تكوين فلسفة ايجابية قادرة على مواجهة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عالمنا المعاصر، فلا بد أولا الانطلاق من فلسفة علمية وإنسانية، تضمن لنا فضاءا أوسع في رحاب المعرفة. وكذلك التأكيد على ضرورة التنمية الفكرية كضرورة فلسفية. خاصة إذا علمنا أن الفلسفة نابعة من التعجب وحب الاستطلاع والرغبة في الفكر القائم على التخطيط واعتماد منهج علمي وإنساني.
لكن الى يومنا هذا لم تزل الفلسفة تطرح في الأوساط والنخب العالمية المثقفة كإشكالية يراوح التعامل معها بين القول بالحاجة الدائمة إليها مهما تعاظمت التحولات التي يشهدها الإنسان والعالم، والقول بزوالها وانتهائها في ظل الاكتساح الهائل الذي أحدثته التطورات التقنية والعلمية والمعلوماتية.
فلو نظرنا في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا غائبة وكأنـها تنتمي إلى مرحلة مضت. فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية، ومنطقها غير متلائم مع مشاكل العصر، وليست لـها أية نتائج ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة.
من المؤكد أن الفلسفة ليست من السهولة بحيث تكسب رضا الناس، فهي من حيث كونها ممارسة نظرية، تستعصي على العقول غير المهيأة لهذا اللون من التفكير، حتى أضحى النفور منها عادة تواكب كل نص فلسفي الطابع. والفلسفة لا تفهم إلا بالفلسفة ذاتها ولا تدرك فائدتها إلا لمن جد في تحصيلها وخبر طرائقها واكتسب مهارة في قراءتها وفهمها.
ولا يمكن أن يكون السبب هو إن الفلسفة مسألة صعبة أو مستحيلة المنال بل هي مسألة اختصاص، والاختصاص يعني الاهتمام في مجال قولي معين، وهو هنا المجال الفلسفي الذي يمكن التعريف به من دون الغوص في المذهبيات، انه تراث الفلاسفة منذ أفلاطون حتى دريدا وهابرماس .
وهنا ينبغي علينا أن نشير إلى أن عموم الناس يصرون على مقتضيات النفع المباشر الملموس، وأنهم يطالبون أي نشاط فكري أو عملي بأن يقدم مبرراته وفائدته التي تظل، لدى أغلب الناس ذات طابع نفعي حسي مباشر .
ثم أننا لا بد أن نعترف، لكي نحدد بصورة واقعية فائدة الفلسفة، بأن قيمتها تكمن في صلتها بحاجات العقل وتطلعاته، وأما الحاجات المادية فهي وظيفة العلوم الجزئية، وأن ثمة حاجات يفرضها علينا وجودنا واجتماعنا بل وقيمنا، إلى دراسة الوجود ككل، وإلى معالجة أمور ليست من صلب الاهتمام العلمي كالأخلاق والقيم والروح والحرية والوجود العام.
وغياب النقد عن التفكير الإنساني، الاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري، يضعف من أهليته ويقلل من فاعليته في إحداث صيغة توافقية مع مقتضيات العصر، بل وينتهي به إلى الوقوع في التكرار والاجترار.
فالفلسفة كانت ولا تزال هي الطاقة العقلية الخلاقة التي تحفز على مزيد من الإبداع، من خلال ما تطرحه من مفاهيم متعددة ومفيدة. لقد كانت فلسفة المشائين والمنطق الارسطي سببا في تطورات عظيمة في الثقافة الاسلامية وحضارة المسلمين؛ فالفارابى، وابن سينا، وابن رشد. بذل كل منهم جهودا وتحمل العناء في سبيل شرح هذين العلمين.
لو رجعنا إلى تواريخ الأمم المتفوقة والمزدهرة لرأينا أنها وصلت إلى هذه الغاية عن طريق الفلسفة والعلم وما ينتج عنهما من رؤى وتصورات وسلوكات محددة. نحن دائما على صلة بعالمين مختلفين:عالم المدركات الواضحات وعالم الغوامض والمبهمات. وقد جرت العادة أن نستخدم الفلسفة وسيلة للتعامل مع المسائل الغامضة0 أما الأمور الواضحة, فإننا نسيطر عليها من خلال الملاحظة والتجربة وإدراك أبعادها المختلفة0 ومن المهم أن نفرق بين معطيات الفلسفة ومعطيات العلم, فمهمة الفلسفة لا تتجسد في مدنا بالمعلومات, وإنما في زيادة شفافيتنا, وفسح المجال أمام استشراف المستقبل, وتكوين قدراتنا في مجال التعليل والتحليل. إنها تعلم الشمول, لكنها لا تمنح الدقة, ولا تسعفنا باليقين.
أما العلم فإنه على العكس من ذلك, فهو يوقفنا على جملة من الخبرات الجزئية الدقيقة لكنه ينفر من التعامل مع غير المحدد والمبلور والملموس. ويظهر التصلب الذهني بوضوح حين يدافع أكثر الناس عن وجهة نظرهم ورؤيتهم لحدث ما دفاعا مستميتا. حيث تبدد الساعات الطوال في البرهنة على قضية لا يحسمها أي برهان ولا أي جدال مهما طـــــــــال.
أما صاحب الذهن المرن, فيعرف أنه يقف على أرض هشة, وأن ما تجمع لديه من مقدمات ومعطيات, لا يكفي لجعل تحليله وحكمة قطعيا, ومن ثم فإنه يكتفي بعرض وجهة نظره, وإبداء رأيه في وجهات نظر الآخرين تاركا لمناظريه الخوض في الظنون.
صحيح أن نتائج العلم مباشرة من خلال المنتج التكنولوجي، ولكن الفلسفة ذات نتائج أكثر قوة وفاعلية، ولكنها غير ملحوظة إلا للقلة من الناس. والنتائج الباهرة للعلوم المادية في العصر الحديث، لم تكن مجرد محصلة للكشوفات والمخترعات العلمية بقدر ما هي نتيجة لسيادة التفكير العقلاني الفلسفي في جميع أنماط التفكير وأشكال الوعي، ذلك التفكير الذي يحرر العقول من سلطة المفاهيم الجامدة والتي استنفدت أغراضها، ولم تعد نافعة في استقراء الواقع وكشف ممكناته. وتحرير العقل يسبق استثمار خيرات الطبيعة واستغلال مواردها، وهذا لا يتم إلا بالفلسفة. ولا يتم إلا بنوع من الحيرة والدهشة من بعض ظواهر الحياة وقضايا الإنسان والوجود، وبهذا يكون مستندا للروح النقدية التي تدفع لمراجعة وإعادة النظر فيما يعتبره الكثير من الناس بديهيا لا يستدعي التفكير أو التساؤل.
كذلك فان التفكير الفلسفي هو تفكير شكي، فلا يسلم بصحة شيء ما لم يعرضه على ملكة العقل لكي تتحقق من صدقه وعدم تناقضه. ولذا فهو يحذرنا من سرعة التصديق أو قبول ما لم يتم فحصه واختباره والبرهنة عليه. فلا بد أن نترك مجالا للشك داخل منظومتنا الفكرية لكي لا تتصلب عقولنا ونبتعد عن الواقع.
لذا لم تكن الفلسفة يوما ترفا أو مجرد عمل فكري هامشي، ففي بواطن كل منفعة قدمتها المنجزات الحديثة للإنسان مكونات ومكنونات فلسفية لا تنكر، حتى على مستوى الخطابة والفن والمسرح. كما أن الفلسفة ليست مجرد قرار اعتباطي، ولا مجرد ثرثرة ولا تنظير مجاني، وإنما هي نتاج قلق ومعاناة .
هذه هي مهمة الفلسفة وأهميتها عند جورج لوكاش ويورغن هابرماس، أولئك الذين لم يستمع إلى كلامهم سوى القلة القليلة من الناس، لان كلامهم غير مرغوب فيه، لان النقد الواعي ينبغي أن يعكس الوضع القائم لأي نظام، وبذلك يستطيع تعرية سوء التنسيق للمدنية المعاصرة بقيمها ومعاييرها وأخلاقيتها.
إن المبادئ العظيمة التي قدمها القرن الواحد والعشرون تظهر اليوم مشوهة. وهذا التشوه إنما يعكس في الحقيقة، احتجاج الطبيعة ضد الإنسان وطرق استغلاله لها وضد حالة القهر والظلم، وهي الشهادة الوحيدة المعبرة التي يمتلكها الفلاسفة اليوم. ومع ذلك ينبغي على الفلسفة أن لا تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة والحقيقة اللانهائية، ينبغي أن يقاس محتوى الحقيقة للأفكار الأساسية بأصولها الاجتماعية والثقافية التي نشأت عنها.
فالفلسفة تهدف دوما إلى أن تكون وسيلة وليس غاية لذاتها تربط النظرية بالممارسة العملية. وفي المقابل فان الفلسفة تحاول أن تبني واقعا أفضل، فحين يتساءل نيوتن أو أينشتاين أو أديسون عن موضوعات علمية ثم يكتشفون أو يخترعون، يتوقف السؤال وتنتهي الإجابة. ولكن حين يتساءل أرسطو أو ابن رشد أو ابن سينا او ديكارت أو كانط أو هابرماس ويجيبون، فإن الأجوبة والأسئلة لا تكف. فالسؤال العلمي محدد والجواب العلمي جواب ناجز إلى حد بعيد، أما السؤال الفلسفي فسؤال كثيف وأزلي لطبيعة موضوعاته ومفارقتها. سؤال يحمل من الجدة القدر نفسه من القدم. والإجابة لا يمكن إلا أن تتكرر. من هنا رأى الدارسون والمهتمون بالفلسفة كيف تتجدد الأسئلة. حيث ان الأجوبة عن السؤال عن غاية الفلسفة وأغراضها وعن أدوات فعل التفلسف وعن العلاقة بين الفلسفة والدين وعلائقها بالعلم والقانون والسياسة والأخلاق وبالكون والإنسان، لم تطفئ المحاولة ولم ترو ظمأ الأسئلة؟ وكأن هايدجر يشتق قانونا ملازما للفلسفة اذ يرى إن أهم ما في الفلسفة أن تتحول الأجوبة إلى تساؤلات، والقراءة الواحدة الى عدة قراءات.
ثم ان المتأمل للنتاج الغربي في أكثر تلك الموضوعات الفلسفية يجده نتاجا حائرا وهو ما يجعل التفلسف يتحول إلى عمل مجرد من المعنى ، لكن وعلى رغم ذلك يظل له مغزى على كل حال. فالفعل الفلسفي أبعد من أن يوصم بالترفيه والرفاهية وليس قطعا رياضة نظرية من أجل التجريد والمتعة فحسب. وهو ما يفارق على الأقل المهمة التي اختطتها الفلسفة وأعلنتها لذاتها. فالفعل الفلسفي ظل فعلا مثابرا في بحثه عن الحقيقة. وهو ما شكل حيرة عميقة لا تنفك تلازم نتاج العقل الفلسفي حين يحاول أن يتوغل في التجريد والتعالي.

التعليقات معطلة.