مرت خلال الأيام الماضية ذكرى مرور أربعين عاما على توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي وقعت بتاريخ الـ26 من مارس 1979م في البيت الأبيض بالولايات المتحدة، وقعها عن الجانب المصري الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وعن الجانب الإسرائيلي رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، وتم توقيع الاتفاقية بإشراف ورعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وقد تم التمهيد لهذه المعاهدة بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بتاريخ الـ17 من سبتمبر 1978م في منتجع كامب ديفيد، والتي كانت تحمل الإطار العام والخطوط العريضة لمعاهدة السلام. هذه المعاهدة واتفاقية كامب ديفيد تعتبر من المفاصل التاريخية (الخطيرة) في تاريخ العرب المعاصر وذلك لأسباب متعددة سنأتي على ذكرها، بينما يعتبرها البعض الآخر نجاحا سياسيا يحسب للرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وقد أدت تلك المعاهدة واتفاقية كامب ديفيد إلى استقالة ثلاثة وزراء خارجية هم وزير الخارجية المصري الأسبق إسماعيل فهمي، وكذلك وزير الدولة للشؤون الخارجية المعين محمد رياض بعد إعلان تعيينه مباشرة، وتبعهم محمد إبراهيم كامل الذي استقال أثناء المفاوضات، وقد علق لاحقا “على أن المشكلة لم تكن في موقف إسرائيل المتزمت، ولا في الموقف الأميركي، بل المشكلة كانت في السادات نفسه الذي رضخ كليا للرئيس كارتر”. ولكن هذه النتائج كانت نتائج وقتية، إلا أن النتائج الأخطر ما زالت ماثلة حتى اليوم. إلا أن السؤال الذي يتبادر في الذهن دائما: لماذا لم تستطع مصر تعديل تلك المعاهدة حتى اليوم؟!
لقد حملت معاهدة السلام عدة نقاط رئيسية منها الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وإنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل وإقامة علاقات ودية دبلوماسية بين الطرفين، وهو ما يعني اختراقا أمنيا خطيرا لجبهة المواجهة العربية، بانخراط أكبر وأبرز قوة عربية خلال تاريخ الصراع في اتفاقية ثنائية مع الجانب الإسرائيلي دون التطرق للانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، ودون تنسيق جماعي مع بقية الأشقاء العرب، ويمثل كذلك تحركا أحادي الجانب من قبل الرئيس أنور السادات دون التشاور مع دول المواجهة التي احتلت أراضيها في حرب 1967م خلال نفس الفترة، وبالتالي فقد حققت هذه المعاهدة أهم مسألة في صالح “إسرائيل” من خلال تفكيك الأمن القومي العربي، وشق الصف العربي، وتأمين الجبهة الجنوبية للكيان الصهيوني، وهي الجبهة الأخطر في تاريخ الصراع، وبالتالي تحييد دور مصر القومي، واستبعدت عن قيادة الأمة العربية، وهي الدولة العربية المحورية خلال التاريخ العربي، فيما جاءت المعاهدة بحد ذاتها منقوصة السيادة كونها حددت حجم الوجود العسكري المصري في سيناء، ولا نعلم حتى الآن كيف قبل الرئيس السادات تلك البنود وتحت أي مبررات؟!
لو عدنا إلى ما بعد حرب 1967م نجد أن مصر خسرت الحرب، ولكنها عادت سريعا واستعدت لحرب أخرى فاصلة مع العدو وأرهقت “إسرائيل” من خلال حرب الاستنزاف عام 68م وقامت بتحديث الجيش المصري، واستمر التنسيق والإعداد مع باقي الدول العربية، مع تفعيل واستمرار حالة المواجهة موحدة، ما كان يمثل أكبر تهديد لدولة الكيان الصهيوني وقد أثبت ذلك فعاليته، فكانت دولة الكيان المحتل تدرك أنها أمام معركة فاصلة مع الأمة العربية مجتمعة لا بد منها، وهو ما حدث بالفعل في الـ6 من أكتوبر 1973م .
كل تلك المعطيات كانت واضحة أمام السادات، وتؤكد أن البقاء في سيناء لم يكن ليستمر في ظل حالة اللاسلم واللاحرب القائمة وبقاء جيش الاحتلال في حالة تأهب دائم مع استمرار المواجهة واستمرار الاستنزاف، لذلك كانت “إسرائيل” تدرك أنه لا يمكن لها البقاء في سيناء في ظل تلك الظروف، وأنها بلا شك أمام مواجهة أخرى محتملة في ظل استمرار حالة اللاسلم واللاحرب، وأن مصر لا يمكن أن تنسى أرضها المحتلة، ولن تنسى شهداءها وستهرب “إسرائيل” من سيناء طوعا أو حربا، ولكن السادات قدم لكيان الاحتلال طوق النجاة من خلال اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وحقق لـ”إسرائيل” ما كانت تبحث عنه .
لقد سبق أن حاولت “إسرائيل” استجداء السلام مع الرئيس عبدالناصر أكثر من مرة مقابل الانسحاب الكامل من سيناء، وهو ما رفضه عبدالناصر؛ لأن القدس والضفة والجولان أولا في مفهوم عبدالناصر حسب نظرية الأمن القومي العربي الجماعي واستراتيجية المواجهة، وهذا موثق بلسان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، ما يعد دليلا واضحا على أن “إسرائيل” تتجنب دخول أي مواجهة استنزاف على المدى البعيد، وبالتالي فإن معاهدة السلام واتفاقية كامب ديفيد التي سبقتها حققت نتائج استراتيجية للصهاينة، وضعضعت الموقف العربي، وكانت بداية انتكاسة عربية تبعها أحداث عاصفة ما زلنا نتجرع نتائجها حتى اليوم .
إن الانقسام العربي الذي تبع تلك المعاهدة المشؤومة لم يتوقف، بل تزايد، فلم تعد جمهورية مصر العربية هي قوة التوازن السياسي العربي ومحور الأمة التي يلتف حولها العرب وتوحد مواقفهم، فتم تحييدها في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتم مقاطعتها منذ عام 1979 ولغاية 1989م ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة، كما أن معاهدة السلام فتحت الباب على مصراعيه أمام بقية دول المواجهة لعقد اتفاقيات ثنائية مشابهة “أوسلو” مع السلطة و”وادي عربة” مع الأردن، ثم انفتاح آخر مع دول الاعتدال العربي، ما أدى إلى حالة من التراجع العربي، ولم يتوقف كيان الاحتلال عن عدوانه المستمر على الفلسطينيين، وتجردت القضية الفلسطينية من عوامل الدعم العربي، وأصبح الأشقاء في فلسطين في مواجهة عدو متنمر ينفذ مخططاته ويقوم بممارسات همجية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ولم يستطع العرب تشكيل موقف موحد نظرا لفقدان حرية المناورة لأكبر دولة عربية، لذلك فإن معاهدة السلام اختطفت قيادة جبهة المواجهة العربية المتمثلة في جمهورية مصر العربية، ومن الصعب استعادة زمام المبادرة في هذا الصراع دون استعادة القيادة التاريخية للأمة، وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، والتاريخ خير شاهد على ذلك .
خميس بن عبيد القطيطي