عندما نتحدث عن التراجع والخلل في النظام العربي، فبلا شك نحن نقف أمام أسباب متعددة سياسية واقتصادية وعلمية وثقافية واجتماعية وإدارية، ويدرك غالبية العرب مكامن الخلل المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والتعليم والإدارة والصناعة والخلل في المؤسسات الحكومية، وعدم الاستفادة من مصادر الثروة العربية، والافتقار إلى التخطيط السليم، والاعتماد على الاستيراد، وغياب الاستثمار، وانتشار الفساد وظواهر التطرف الديني والانقسام الداخلي والتدخل الخارجي كأهم أسباب الخلل والتراجع في منظومة الكيان العربي .
كل الأسباب المذكورة أعلاه، هي أسباب جوهرية عند تحديد مكامن الخلل، وتختصر مشهد التراجع في العالم العربي، بل تجاوزت الحالة العربية حدود التخلف والتراجع الذي كنا نتحدث عنه في العقود الماضية، فأصبحنا اليوم نتحدث عن فشل في عمل أجهزة الجسم العربي. ولكن رغم تلك المعاناة التي يعايشها النظام العربي ما زالت الأمة تمتلك بعض أوراق القوة والصمود من خلال ورقة المقاومة التي تعتبر سلاحا بيد النظام الرسمي العربي في حال استنفدت الخيارات الأخرى، مما ينبغي عدم إسقاط هذا الخيار من أوراق العمل العربي، وستظل المقاومة هي الرهان الحقيقي للأمم والشعوب، وما أجدر الأمة العربية بتبنيها .
سأكتفي بالحديث عن مكامن الخلل السياسي العربي ومواضعه مستثنيا باقي الأسباب الأخرى؛ لأن استمرار الخلل في النظام السياسي يعتبر من المشكلات الملحة التي تكبل الواقع العربي الحالي، ولا يمكن للعرب استعادة أنفسهم وإصلاح باقي مواضع الخلل الأخرى دون معالجة الأوضاع السياسية الراهنة .
إن النظام الرسمي العربي ـ وبعد الخروج من دائرة الاستعمار القديم؛ أي بعد مرحلة التحرر ـ استطاع أن يقف بقوة ويؤسس لمرحلة جديدة مناهضة للوجود الاستعماري، ورفض التدخل في الشأن العربي، لذا استطاعت الأمة العربية أن تقاوم وتجيش الجيوش من أجل استرداد الحقوق واستعادة الأراضي المحتلة، فقدمت تضحيات بالغالي والنفيس من أجل استرداد الكرامة العربية، وهذا بحد ذاته مؤشر مهم بأن الأمة العربية والنظام الرسمي العربي كان يمتلك الروح والإرادة والعزيمة لاستعادة الحقوق ومقاومة الاستعمار الخارجي، والنهوض بباقي مجالات العمل العربي المشترك، فكان العرب يعتمدون على وحدة الموقف السياسي، مع وجود قيادات عربية قوية تمتلك العزيمة والإرادة في مجابهة قوى الاستعمار، وتم تأميم مصادر الثروة العربية والاهتمام بباقي مجالات النهوض، رغم ظروف الدول العربية الخارجة حديثا من رحم الاستعمار، بالإضافة إلى حالة التلاحم بين النظام الرسمي العربي والشعوب، وهي ميزة حيوية وحدت الجهد العربي في اتجاه واحد لا انقسام ولا اختلاف، ما أسهم في الحفاظ على صلابة الموقف العربي في مواجهة الأحداث التي مرت بالمنطقة .
لقد أصبح النظام الرسمي العربي مع تقادم الزمن في موقف متشظٍّ ومنقسم، وتغلبت وجهة النظر القطرية على المصالح العربية العليا في ظل غياب القيادة العربية المحورية، فأصبحت العلاقة بين النظام الرسمي العربي والشعوب علاقة مشوشة نظير أسباب متعددة منها الأوضاع الداخلية المتردية (المعيشية والبيروقراطية والفساد) والاستبداد السياسي، وغياب الديمقراطية الحقيقية، واتساع الفجوة بين الأنظمة الرسمية والشعوب، وغياب الشراكة السياسية والعدالة الاجتماعية والحريات، كما أدى تزايد الخلاف بين الدول العربية إلى تدخل القوى الخارجية وعودة الاستعمار بشكله الجديد .
إن أهم مكامن الخلل ومواضعه في الشأن السياسي العربي الذي يعاني منه العرب اليوم هو فقدان القيادة والانقسام العربي وغياب وحدة الموقف والهدف، وهو ما أدى إلى انفراط عقد العرب، لذلك هيمنت القوى الخارجية على القرار العربي واستطاعت التحكم بمصادر الثروة العربية واستمرت في سياسة “فرق تسد”. وهذه من أهم أسباب الخلل في النظام السياسي العربي، ولذلك فقد النظام الرسمي العربي أهميته، فأصبح العرب اليوم يتحدثون عن “صفقة القرن” كقدر محتوم، ومشروع الإدارة الأميركية في ضم الجولان للسيادة “الإسرائيلية” واعتبار القدس عاصمة للدولة اليهودية. وللأسف الشديد ما زال النظام العربي في حالة من الغيبوبة، ولم يستطع الانحياز للاستحقاقات الوطنية والقومية، فأي بلاء ابتليت به هذه الأمة؟!
لقد أثبتت شواهد التاريخ أن إطلاق كلمة “لا” في وجه الغطرسة الاستعمارية الدولية أبقت حيزا من الكرامة، ومنحت العرب المساحة الكافية للمناورة في السياسة الدولية بدلا من الخضوع للإملاءات الخارجية، والعالم اليوم يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، وبإمكان النظام الرسمي العربي تحديد خياره إن أراد البقاء والصمود واستعادة الكرامة، كما أن تعزيز ورقة المقاومة والوقوف في خندقها هو الرهان الحقيقي في مجابهة المشاريع الاستعمارية، وما زلنا نراهن عليها طالما أن هناك شعوبا تنبض بالحياة .
خميس بن عبيد القطيطي