الفساد كان سمة في مسيرة الحكومات التي تعاقبت على الحكم بعد هذا التاريخ، وتسبب بإهدار مئات المليارات من خزينة الدولة التي تعد واحدة من دول العالم الثرية بالنفط.
الاحتلال والفساد، برفقة الإرهاب والطائفية؛ أربعة أضلاع أطبقت على حياة العراقيين وحولت بلادهم إلى واحدة من الدول الأكثر فقراً في العالم؛ لا سيما بعد تهاوي البنى التحتية بسبب التقادم الزمني وعدم الصيانة، وتراجع الخدمات الأساسية إلى ما دون المستويات الدنيا.
كل ذلك كان يقف وراءه أباطرة الفساد الذين استحوذوا على الميزانيات التي تخصص لبناء وصيانة البنى التحتية.
وتعتبر فترة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي (2006 – 2014) الأكثر فساداً في تاريخ العراق؛ حيث سلم السلطة لخلفه حيدر العبادي بعد اختفاء مليارات الدولارات من الميزانية، حرص الأخير على الوصول إلى معلومات عنها فعجز بسبب تورط قيادات عليا في الدولة والأحزاب النافذة في الأمر؛ بحسب تصريحات علنية أدلى بها مسؤولون في الحكومة لوسائل الإعلام.
تهديد بالموت
فشل حكومة العبادي في الكشف عن ملابسات الفساد الذي فاحت رائحته، أثار غضباً شعبياً واسعاً صيف 2018 كاد يسقط النظام؛ ما حول التحدي إلى مربع حكومة عادل عبدالمهدي، الذي تولى مهام منصبة في أكتوبر 2018، وفي 29 يناير أعلن عن تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، جاعلاً هذه القضية من أولويات حكومته.
تقرير خاص
ذات التحدي يقف في مواجهة الحكومة الجديدة؛ المتمثل بكون المتورطين في منظومة الفساد هم ساسة وقادة أحزاب ومليشيات، وهذه الطبقة هي التي تسيطر على المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري العراقي، أي أنها هي الحاكمة الفعلية.
مصدر في الدائرة الإعلامية التابعة للمجلس الأعلى لمكافحة الفساد كشف للخليج أونلاين، عن أن أكثر من 90 ملفاً طرح على طاولة المجلس، تقدر الأموال المتعلقة بها بعشرات المليارات من الدولارات.
وأضاف المصدر طالباً عدم ذكر اسمه إن “ما يعيق عمل المجلس هو ارتباط أكثر تلك الملفات بشخصيات وأحزاب متنفذة”، مشيراً إلى أن “غالبيتها تعود إلى حقبة ولايتي نوري المالكي”.
المصدر ذكر أن “العديد من الموظفين الكبار في مؤسسات الدولة تعاونوا مع المجلس في أعقاب خطاب رئيس الوزراء، وتأكيده أن مكافحة الفساد هي من أولويات المرحلة المقبلة، لكنهم تراجعوا عن ذلك بشكل مفاجئ”.
وأكد أنه “بعد أن تقصى المجلس عن الأسباب تبين أن تهديدات بالقتل وصلت بشكل متزامن وبطرق مختلفة لكل المتعاونين”.
وأضاف ان “التقارير عن الفساد أصبحت تصل إلينا من مسؤولين لا يذكرون أسماءهم خوفاً على حياتهم من مافيات الفساد”، لافتاً النظر إلى أن “السنوات الماضية شهدت عمليات اغتيال طالت شخصيات حاولت الكشف عن بعض ملفات الفساد”.
في هذا السياق أعلن مدير هيئة المنتوجات النفطية في جنوب العراق، حيدر البطاط، تلقيه تهديداً من جهة مجهولة بعد كشفه بعض أوجه الفساد في محافظة البصرة.
وقال البطاط “وردت رسالة تهديد إلى هاتفي من جهة تطلق على نفسها اسم الدولة العميقة، كما وردني تهديد آخر عبر البريد الإلكتروني من الجهة نفسها، بعد مطالبتي بإعادة تأهيل مستودع نفطي، بالاستفادة من مواد متاحة دون الاستيراد من الخارج الذي سعت إليه جهات نافذة بهدف الحصول على رشاوى وعمولات من شركات خارج البلاد”.
البطاط دعا رئيس الحكومة إلى “توفير الحماية الشخصية له ولأفراد عائلته”، مؤكداً “نحن في خطر شديد وقد يقتل أو يخطف أحدنا”.
تهديد الصحفيين
صحفيون عراقيون يتعرضون أيضاً للتهديد بالقتل عند عملهم على مواد صحفية تتناول ملف الفساد، خصوصاً إذا كانت هذه المواد على شكل تحقيقات تضم مستندات تكشف وقائع فساد وتلاعب بالمال العام، بحسب ممثل مرصد الحريات الصحفية في النجف وسام رشيد.
رشيد قال إن “العديد من وسائل الإعلام العراقية تضطر لوقف نشر تقارير وتحقيقات صحفية تتعلق بالفساد؛ بسبب التهديدات التي تصل إلى ملاك أو محرري تلك الوسائل، وأحياناً يتعرض الصحفي الذي يعمل على مثل هذا المحتوى لتهديد مباشر بالقتل عبر رسائل تصل إليه في الغالب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قتل البعض منهم في السنوات الماضية”.
وأضاف ان “تحقيقاً أجراه زميل في محافظة النجف (161 كم جنوب غربي بغداد) كشف عن وجود فساد في 143 مشروعاً متلكئاً تسبب بضجة مؤخراً وجرى إحالة الأمر لهيئة النزاهة، أدى إلى تعرض الزميل لتهديد بالقتل”.
وتابع رشيد “وبعد أن عجزت السلطات عن توفير الحماية له اضطر الزميل الذي لايمكنني ذكر اسمه حالياً لأنه في إحدى دول الجوار يحاول الهروب إلى أوربا، لترك المدينة والبلاد كلها”.
ممثل مرصد الحريات الصحفية في النجف، طالب السلطات بتوفير الحماية للصحفيين ووسائل الإعلام إن كانت جادة في ملاحقة الفساد، معتبراً “الصحافة الحلقة الأقوى في الحرب على الفساد”.
من جهته أكد مركز “حقوق لدعم حرية التعبير” في تقرير نشره يوم الخميس (4 إبريل) أنه سجل 37 انتهاكاً بحق الصحفيين العراقيين، خلال الربع الأول من عام 2019، وهي الأعلى قياساً بالأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي بنسبة الضعف.
وبين المركز أن أبرز تلك الانتهاكات، تمثلت في اعتقالات متكررة لصحفيين يعملون في قنوات فضائية، وفصل طلبة جامعيين بسبب منشورات في “فيسبوك”، بالإضافة إلى ممارسة تحرشات من قبل قوات أمنية وحمايات مباني المؤسسات الحكومية، إلى جانب التهديدات المبطنة والتلميحات بالترهيب على خلفية إعداد تقارير صحفية أو تصوير مواد مرئية، فضلاً عن محاكمة عدد من الصحفيين.
حماية الأكثرية الصامتة
النقص في القوانين والإجراءات التي توفر الحماية لحلقات مطاردة ومكافحة الفساد في البلاد، من أكبر العوائق التي تحول دون الإبلاغ عن جرائم التحايل على المال العام، بحسب عضو التيار المدني العراقي، عبد السلام الزوبعي.
الزوبعي طالب بـ”تشريع قوانين وبناء منظومة ثقة بين الحكومة والموظف ووسائل الإعلام والأجهزة الأمنية؛ لكي يتحرك الأشخاص النزيهون؛ وهم برأيي الأكثرية لكنهم أكثرية صامتة”.
وأوضح أن صمت الأكثرية “بسبب الرعب من الملاحقة والقتل الذي طال العشرات قبلهم”، مشيراً إلى أنه “ما لم توجد آليات وقوانين تحمي المبلغ عن الفساد ستبقى هذه الأغلبية على صمتها”.
وذكر، أن “بعض الموظفين الكبار الشرفاء الذين لم يهن عليهم أن تهدر أموال الدولة، وأن يتغول الفساد، أبلغوا عن بعض الصفقات والمشاريع المشبوهة، ومن خلال المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد تسربت أسماؤهم وتعرضوا للتهديد”.
وتابع الزوبعي “لابد من تخصيص وسائل آمنة للمبلغين عن الفساد، سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين عاديين، والتكتم على هوية من يدلي بمعلومات، وهذا يحتاج إلى تشريع من البرلمان، وإرادة لدى السلطة التنفيذية لتقديم كامل الضمانات والحماية لمن يساعدها في كشف ملف الفساد، وعدم التستر على جهة حزبية أو شخصية نافذة يثبت تورطها”.
يشار إلى أن تحالف “سائرون”، المدعوم من مقتدى الصدر، طالب رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي الأربعاء (3 إبريل) بإعادة هيكلة الجهات الرقابية، مبيناً أن هذه الجهات مرتبطة ومتورّطة بالفساد، والتلاعب بالأموال العامة.
وقال النائب عن التحالف رامي السكيني في تصريح صحفي: إن “الفساد أصبح منظومة دقيقة داخل مؤسسات الدولة، وإن هذا الفساد ومحاربته يجب أن لا يتحول إلى مجرد شعارات”، مشيراً إلى أن “مكافحة الفساد يجب أن تتم عن طريق برامج حقيقية لردعِ الفاسدين، وهذا الأمر يتم عبر إعادة هيكلة غالبية الجهات الرقابية”.