حديث الروح.. والسياسة

1

 
 
 
وسط خضم الروحانيات التي تتوازى مع شهر رمضان المبارك، وتتعاظم نسائمها مع العشر الأواخر، ظننت أنها ستسلب الأصدقاء رؤاهم السياسية، وتزيل عنهم رداء التوقع والتحليل والتنظير خصوصا ما يتعلق باحتمالات اندلاع حرب بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، لكن يبدو أن السياسة التهمت العقول حتى مع هيام القلوب بروحانيات رمضان.
حديث السياسة مستمر، وبدون فواصل، وتناول أحداث المنطقة الملتهبة، ورصد التحركات الأميركية الإيرانية، واحتد النقاش باختلاف الرؤى بين “الحرب” و”اللاحرب” ليحتكم الأصدقاء لي كوجهة نظر محايدة، ورغم أنني تناولت الأوضاع في المقالين السابقين لكنهم قرأوهما ونسوا ما بهما، وما أنساهم إلا الشيطان وليس عذر الصيام، حتى أن منهم من لم يتذكر سوى مقال الأسبوع الماضي الذي تحدثت فيه عن تحركات الدبلوماسية العمانية لتقريب وجهات النظر بين الفريقين، ونزع فتيل الأزمة، رغم أنني كنت حاسمًا من قبل وذكرت في مقالي السابق له في السادس عشر من مايو أنه لن تكون هناك “حرب”.
الأحداث المتسارعة جعلت الكثيرين من ذوي الذاكرة “السمكية”، ونسيانهم له مبررا وهو تلاحق الأخبار والتصريحات، لكن في النهاية هذا التسارع يثبت ما ذهبت إليه سابقًا، رغم وجود بعض التناقض من وجهة نظر البعض، ففي المقال الأول ذكرت أنه لن تكون هناك حرب في المنطقة، وأن ما يقوم به ترامب ما هو سوى استفزاز للعبة مكررة يريد بها جني بعض الأموال، وبالفعل أعلن الأحد الماضي عن عقد صفقات عسكرية بقيمة 8.1 مليار دولار، حتى دون الحصول على موافقة الكونجرس.
واللافت في الأمر أن هذا الإعلان جاء تحت غطاء “حالة الطوارئ”، إذ أشار موقع “سي. إن. إن” الأميركي إلى ما صرّح به وزير الخارجية، مايك بومبيو، بأن الصفقة تأتي لوقف “التهديدات الخبيثة” لإيران في المنطقة ـ حسب تعبيره. وفي الوقت نفسه، أعلنت إدارة ترامب عن إرسال ما يقرب من 1500 جندي إلى المنطقة، وهو عدد لا يسمن ولا يغني من جوع في سيناريوهات الحروب، إذ يتضح أن ترامب استطاع الحصول على بعض مما يريده من هذه المناوشات الانتهازية (أكثر من 8 مليارات دولار)، والدليل على أنه “كاذب” في كل ما يقوله يجب طرح تساؤل: أين هو من وعده بحماية المنطقة في الوقت الذي تعرضت فيه كل من الفجيرة (الإمارات) ومصفاة للنفط (السعودية) لبعض العمليات الإرهابية؟
الإجابة هي أن الجالس على كرسي البيت الأبيض لم يتحرك لوقف هذه العمليات رغم الأساطيل البحرية التي تنتظر إشارته.
ولتأكيد الإجابة وتوثيق الرؤية أتطرق لتصريحات ترامب في اليابان يوم الاثنين الماضي في المؤتمر الصحفي مع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في طوكيو: “لا أتطلع إلى الإضرار بإيران إطلاقًا، بل إلى دفعها للقول: لا للأسلحة النووية”، بل وعاد يمارس استراتيجيته في سوابقه مع كوريا الشمالية العام الماضي، قائلًا: “أعتقد أننا سنبرم صفقة… أعتقد أن لدى إيران قدرات اقتصادية هائلة، وأتطلع إلى السماح لهم بالعودة إلى مرحلة يستطيعون فيها إظهار ذلك” – بحسب وكالات الأنباء الناقلة للتصريحات.
لم يكتفِ ترامب بجزم إجابته، بل تطرق لمدح طهران شعبًا وحكومة، فوصف الإيرانيين بأنهم “شعب عظيم”، مشيرًا إلى أن إيران يمكن أن تكون دولة عظمى مع نفس القيادة، وتابع: “لا نتطلع إلى تغيير النظام، وبودي أن أوضح ذلك… نتطلع إلى غياب السلاح النووي”.
أما المقال الثاني والذي تحدثت فيه عن تحرك الدبلوماسية العمانية لتقريب وجهات النظر بين كل الأطراف لنزع فتيل الأزمة، فتبعه، بيومين فقط، تصريح عن تحرك الدبلوماسية العمانية بين أطراف المشكلة لما تتمتع به السلطنة من احترام ومصداقية بين كل الأطراف، ولخبرتها وتجاربها السابقة.
لا أستطيع أن أقول “حصحص الحق” لأن الحقيقة لم تكن غائبة، لكن الغائب هو البصيرة الإقليمية التي تراقب الأوضاع لتسير باتجاه الريح، فالرابط بين حديث “الحرب واللاحرب” هو أن ترامب يريد ـ فقط ـ إبرام صفقات من أجل الأموال، وهي لعبة قديمة تعودنا أن نراها، بينما تحرك الدبلوماسية العمانية نابع من هوى البعض الذين أرادوا استغلال اندفاع ترامب للمال في “تسخينه” لتحرك عسكري، حتى لو كان خاطفًا، من أجل إشعال الموقف، وتصعيد الأزمة، ودخول المنطقة في صراع تكسير العظام، لكن السلطنة كانت كالجبل الذي لا ينحني للريح ويزداد أصالة وصلابة وقوة بمرور الزمن، فليت جميع الأصدقاء يخلدون لحديث الروح في هذه الأيام المباركة، ويتركون حديث السياسية التي لن يستطيعوا التأثير فيها بالقول أو بالفعل، وأن يؤمنوا أنه طالما السلطنة بخير ممثلة لأرض السلام فإن المنطقة كلها بمأمن إن شاء الله، فقط ينحني جانبا متصهينو العصر الحديث أصحاب الوجوه المتعددة.
 
جودة مرسي

التعليقات معطلة.