تُصعّد تركيا حراكها لحسم مصير منطقة شرقي نهر الفرات السورية، أكان سلماً عبر مفاوضات مع الجانب الأميركي تفضي إلى قيام “منطقة آمنة” في شمال شرقي سورية، أم حتى عبر عملية عسكرية واسعة النطاق، على غرار ما فعلته في منطقة عفرين شمال غربي حلب، والتي انسحبت منها الوحدات الكردية المتهمة بالإرهاب من قبل أنقرة، تحت ضربات الجيش التركي وفصائل معارضة مرتبطة به.
وأفادت مصادر إعلامية معارضة بوصول تعزيزات عسكرية تركية كبيرة إلى الحدود السورية التركية قبالة مدينة تل أبيض شمالي الرقة، في مؤشر واضح على أن المنطقة مُقبلة على تطورات من شأنها تغيير معادلة الصراع في شمال شرقي سورية. وذكرت مصادر محلية في بلدة أقجة قلعة التركية، لـ”العربي الجديد”، أن الحشود من قبل الجيش التركي “كبيرة”، مضيفة “يبدو أن هناك تحضيرات لهجوم وشيك”. وأشارت المصادر إلى أن السلطات التركية طلبت من المجلس المحلي لمحافظة الرقة، التابع للائتلاف الوطني السوري الذي يتخذ من مدينة أورفة التركية مقراً له، “إعداد خطة طوارئ في حال دخول الجيش التركي وفصائل تابعة للمعارضة إلى ريف الرقة الشمالي”، مؤكدة وجود مقاتلين من الجيش السوري الحر مقابل مدينة تل أبيض السورية.
وأكدت مصادر متقاطعة، الأحد الماضي، وصول تعزيزات عسكرية وصفتها بـ”الكبيرة” إلى قيادة “فوج الحدود الثالث”، في ولاية شانلي أورفة جنوب شرقي البلاد، مشيرة إلى أن التعزيزات ضمت قافلة عسكرية محملة بالمدافع والدبابات وانتقلت التعزيزات إلى الوحدات العسكرية المنتشرة على الحدود مع سورية. كما أفادت مصادر إعلامية معارضة أن “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، “استقدمت تعزيزات عسكرية إلى مدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي”، مشيرة إلى أن “قسد” اتخذت عدة منازل داخل المدينة كمقرات لعناصرها، ونشرت عناصرها في الخنادق التي حفرتها مسبقاً على الحدود الفاصلة بين مدينة أقجة قلعة ومدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي. وجدد الجيش التركي، الإثنين الماضي، قصفه المدفعي على مواقع وتحركات الوحدات الكردية في محوري بلدة منغ وقرية عين دقنة وتل مضيق والبيلونية والشيخ عيسى في محيط مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي التي يسيطر عليها المسلحون الأكراد.
ومن الواضح أن الأتراك يستعجلون حسم مصير منطقة شرقي نهر الفرات، سلماً أو حرباً. سلماً عن طريق نسج خيوط تفاهم مع الجانب الأميركي، الداعم الأبرز للأكراد السوريين، يقضي بانسحاب الوحدات الكردية من الحدود السورية التركية، أو حرباً عن طريق عملية عسكرية واسعة لا تنتهي إلا مع القضاء على خطر الوحدات الكردية على الأمن القومي التركي. وكانت وزارة الدفاع التركية قالت، السبت الماضي، إن “وزير الدفاع خلوصي أكار اتفق مع القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر على ضرورة إرسال فريق عسكري أميركي إلى أنقرة، لبحثإقامة منطقة آمنة في سورية”. وكان الطرفان قد اتفقا من حيث المبدأ على إنشاء منطقة آمنة في منطقة شرقي نهر الفرات في مايو/أيار الماضي، لكنها لم تُطبّق على أرض الواقع بسبب خلافات على التفاصيل. وسبق أن ذكرت مصادر مطلعة، في حينه، أن “تركيا تعمل على إنشاء منطقة آمنة على طول حدودها مع سورية بعمق 20 ميلاً (32 كيلومتراً) في عمق الأراضي السورية، ما يعني عملياً السيطرة على مدن عين العرب (كوباني) وتل أبيض ورأس العين والقامشلي”. كما تريد أنقرة طرد المسلحين الأكراد من مناطق ما زالوا يسيطرون عليها في ريف حلب الشمالي، إضافة إلى مدينة منبج الهامة ذات الغالبية العربية من السكان، التي حال الأميركيون أكثر من مرة دون دخول الجيش التركي إليها.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأحد الماضي، إن بلاده اتخذت خطوات حازمة في منطقتي تل أبيض وتل رفعت في سورية لتحويلهما إلى مناطق آمنة. ونقلت وكالة “الأناضول” التركية عنه قوله إن بلاده تستعد لتحضيرات سيتم تنفيذها في تل أبيض وتل رفعت، موضحاً أنه نقل الموضوع إلى زعماء روسيا والولايات المتحدة وألمانيا خلال مباحثاته معهم أخيراً. وأكد أردوغان أنه دعا الزعماء الثلاثة إلى دعم خطوات تركيا في المنطقة لوجستياً وجوياً، وإنشاء بيوت في هذه المناطق (السورية)، يعود إليها السوريون القاطنون في المخيمات ضمن الأراضي التركية. وشدد على ضرورة أن تصل المنطقة الآمنة إلى عمق 30 إلى 40 كيلومتراً داخل الأراضي السورية انطلاقاً من الحدود التركية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لم تف بوعودها المتعلقة بإخراج مسلحي الوحدات الكردية من منطقة منبج بمحافظة حلب شمالي سورية. وقال الرئيس التركي إن “العرب هم أصحاب منبج، وليست التنظيمات الإرهابية”، مضيفاً “هدفنا الحالي هو تطهير تلك المنطقة من الإرهاب بأسرع وقت من أجل تسليمها لأصحابها”.
من جهته، أكد القيادي في الجيش السوري الحر العميد فاتح حسون، وجود حشود تركية على حدود منطقة تل أبيض، مضيفاً، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هناك جدية من أجل تطبيق المنطقة الآمنة على طول 450 كيلومتراً من الحدود التركية السورية المشتركة”. وأعرب عن اعتقاده بأن التحرك التركي “سيكون رداً على أي عقوبات تفرضها الولايات المتحدة على تركيا بما يتعلق بصفقة الصواريخ أس 400 الروسية”، مضيفاً “في حال حدثت عقوبات وتدهورت العلاقات، وهو ما لا نتمناه، يبدو أن الرد التركي سيكون بتطبيق المنطقة الآمنة من دون انتظار واشنطن”. ورأى حسون أن “هناك عدم انسجام في القرارات الأميركية بين العسكريين من جهة وبين السياسيين من جهة أخرى”، مضيفاً “البنتاغون يريد أن تطبق المنطقة وفقاً لقراءة خاصة فيه، لا يشاركه بها تيار سياسي قريب من الرئيس الأميركي الذي يحاول جاهداً ألا تتوتر علاقات بلاده مع تركيا”. وتابع “لا تريد أميركا التصعيد مع تركيا في الوقت الذي تصعد به مع إيران استراتيجياً، وبالتالي تريد ألا يكون محور روسيا تركيا إيران متفقاً في دفع المصالح الأميركية في المنطقة إلى الخلف”.
في المقابل، ترفض “قوات سورية الديمقراطية” في المطلق دخول الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية المرتبطة به إلى منطقة نفوذها، التي تعادل ثلث مساحة سورية، وتؤكد أنها لا تنوي تشكيل إقليم ذي صبغة كردية شمال شرقي سورية يعتبره الأتراك خطاً أحمر وتهديداً لأمنهم القومي. وتنقسم آراء السوريين في منطقة شرقي نهر الفرات حيال التطورات المتلاحقة، والتي ربما تحدد مصير المنطقة الأغنى والأهم في الجغرافيا السورية. وأكدت مصادر محلية في ريف الرقة الشمالي أن شريحة واسعة من السكان تؤيد دخول فصائل الجيش السوري الحر، على الرغم مما قد يشوب ذلك من حالة فوضى أمنية “بسبب تجاوزات الوحدات الكردية بحق السكان العرب والتركمان”. وترى شريحة أخرى أن “قوات سورية الديمقراطية حققت استقراراً نسبياً في منطقة شرقي الفرات”، مضيفة “هناك أمان نسبي وحركة اقتصادية جيدة والحد المعقول من الخدمات”. وتدعو هذه الشريحة إلى “تفاهم يُبدد مخاوف الأتراك من الوحدات الكردية، ولا يفتح الباب أمام قوات النظام والمليشيات للعودة مجدداً إلى المنطقة”، مضيفة “كل الأطراف مرحب بها في منطقة شرقي نهر الفرات ما خلا قوات النظام المتحفزة للقيام بعمليات انتقام واسعة النطاق بحق سكان المنطقة، كما فعلت في كل المناطق التي استولت عليها”. وللخروج من حالة الاستعصاء في شرقي نهر الفرات، طُرحت عدة أفكار من قبيل إدخال قوات من البشمركة السورية (قوات كردية سورية موجودة في إقليم كردستان العراق)، مع قوات “النخبة” العربية التابعة لرئيس الائتلاف الوطني السوري السابق أحمد الجربا إلى منطقة شرقي الفرات لتكون بمثابة قوات “فصل” بين الجيش التركي و”قسد”.